خواطر
وكتابات عامة
ألمدى، سؤال غريب وأداء فريد!
لويس اقليمس
31
آذار 2016
سُعدتُ بدعوة مباركة من مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون، للمشاركة في ورشة حوار، بعنوان (الإصلاح: تنازع الإرادات وإمكانية العبور) يوم السبت 12 آذار الجاري 2106. وقد تفاجأتُ وأنا داخلٌ عبر استعلامات المؤسسة بسؤالي من موظف على المدخل: من أية جهة قادم؟ وحين قلتُ له: أنا عراقي. قال، نعم، ولكنْ أية جهة تتبع؟ فقلتُ له: أنا عراقي مستقلّ!
على أية حال، هذا هو الزمن الذي أجازَ لتسميات مكوّناتية وحزبية وكتلوية وعشائرية للقفز فوق عراقية المواطنة، والحكم على المواطن في ضوء الانتماء إلى هذه الفرعيات الفئوية الأنانية، ما أضعف الوطنَ والمواطن على السواء. فحتى الأمس القريب، لم يكن الجار يهمّه ما طبيعة خلفية جاره، ولا الطالب مهتمًا بقومية زميله،ولا الدولة معنية بنوع دين أو مذهب موظفيها، إلاّ ما ندر. أمّا اليوم، فالاختلاف في الدين يقتضي الابتعاد عن المقابل الذي يُعدّ ذمّيًا أو ربما كافرًا، وربما تجيز محاربته في رزقه وماله ووظيفته وبيته لكونه من خارج "دين الخاتمة". ومثلُه الاختلاف في المذهب يقتضي التأكد من تحاشي المختلَف فيه، فهذا قد يطالُه التكفير، رافضيًّا أو خوارجيًا. أما الصنو الآخر المختلف في القومية والعرق والإتنية عن الجهاز الحاكم، فهذا منبوذٌ من شلّة الأكثرية التي تعدّ نفسَها "خيرَ أمة أُخرجت للناس".
وهكذا دواليك!
ولكن، دعونا من هذا المرض الذي نخر الأمة والدين والمذهب والمجتمع، من دون أن تشعر به جموع مَن يؤمنون بهذه الترّهات، التي إن رجعت قليلًا إلى الوراء وتفرزنت فيما تقولُه أو فيما تؤمنُ به، لعادت أدراجها تجرُّ أذيال الخيبة والخذلان، ببساطة لأنّها تجشمت عناء هذه الأفكار المتخلّفة، وأُقحمتْ ذاتها في مأزق ضيّق وأُدخلتْهافي نفق مظلم، يصعبُ عليها الخروج منه طاهرة الذيل، صافية الذهن، ناصعة الضوء.
ورشة المدى، كانت أكثر من مناسبة لتلاقي الأفكار وتبادل الآراء وطرح المقترحات التنويرية التي تتطلبها المرحلة الراهنة، سيّما وأنّ البلاد على مفترق طرق، كما رأى أحد المشاركين البارزين المقربين من رئاسة الوزارة. فقد أبدع صاحب الفكرة التنظيرية وأستاذ علم الاجتماع الّلامع فارس نظمي، كما وصفه مدير الورشة، باستجلاء ضرورات المرحلة الراهنة وبصدق حدسه الذي رافقه منذ ست سنوات خلت، حيث رأى بضرورة صعود "كتلة عابرة للمكوّنات" تأخذ على عاتقها أعباء المرحلة الفاشلة من عمر الدولة التي لم تستقمْ منذ السقوط الدراماتيكي في 2003. وتلكم، كانت وجهة نظر العديد من المفكرين والمثقفين والوطنيين، إلاّ أهل السلطة وهاوو الفساد والمستنبطون لوسائل سرقة المال العام وتزوير الوثائق والصعود على أكتاف الفقراء.
فقد نجح ساسة المثلث الحاكم من تكوين طبقة زبائنية، من الجامحين الذين شاركوهم في توظيف الدّين والمذهب لمنافعهم الخاصة والفئوية والحزبية الضيقة، لهم ولزعمائهم وأحزابهم وكتلهم ومذاهبهم وأعراقهم. وبالرغم من أنّ هذه هي الحقيقة التي يعترف بها أصحاب السياسة ومَن في السلطة، فهم مازالوا يعدّونها جزءًا من الاستحقاق الذي يتحدثون عنه على الملأ ومن دون خشية ولا استحياء ولا خوف.
لستُ بصدد استعراض ما دار حرفيًا في هذه الورشة، ولا التعرّض للمشاركين فيها من الذين أبدعوا في طرح أفكار حرّكها الشارع العراقي الوطني متمثلاً بالتيار الديمقراطي المدني الناشط، الذي صعّد مؤخرًا من وتيرة انتفاضته في حراكه السياسيّ في تظاهرات واعتصامات كلّ يوم جمعة، بعد التحاق التيار الصدري في صفوف المتظاهرين مؤخرًا وإضافة هذا الأخير زخمًا نوعيًا ووطنيًا.
لكنّ المستخلَص منها يكفي لإنضاج فكرة الإصلاح المطروحة، والتي تفاعلت معها تنسيقيات الشارع المضطرب بعد أن استقطبت مجاميع مهمّة تتبعُ زعامة دينية "محيّرة أضحت لغزًا". لكنّي، مثل غيري، أرى في هذه الأخيرة، زخمًا جماهيريًا وأتلمّس قدرات وطنية يمكن أن تزلزل عروشًا، وتقضي على مفسدين عتاة، وتضع البلاد على سكّة الخير والرشاد، باتجاه تحديد أفق لدولةً مدنية فيها تُحترم كافة الأديان والمذاهب والجماعات، دولة فيها تُحترم كافة السلطات ويراعى فيها القانون وتتداخل الآراء والأفكار من أجل البناء والإعمار والرقيّ وليس للعودة بالبلاد والعباد إلى قرون الظلام والتخلّف والتسلّط.
فبناء الدولة شيء، والبحث عن السلطة شيء مختلف تمامًا.
اليوم، هناك مَن يراهن على الحزمة الأخيرة للإصلاحات المطروحة من قبل رأس الحكومة المنتمي إلى حزب وكتلة تمسك بزمام إدارة الدولة، وتعدّ مسؤوليتها عمّا وصلت إليه البلاد كبيرة أساسية. ورهانُ هؤلاء، محفوف بمخاطر، منها على سبيل التقدير والرؤية الواقعية لقراءة الأحداث، سقوط هذه الحزمة في ذات الخانة التحاصصية التي تُستنسخ اليوم بمسمّيات ومصطلحات جديدة قديمة، مثل التوازن والتوافق والاستحقاق والتفاهم وعدم الخروج عن الدستور وما إلى ذلك. وما يتسرّب إلى دوائر خاصة ومنها إعلامية بالتأكيد، أنّ ذات الكتل الحاكمة التي فشلت بالأمس، هي مَن ستقدّم قوائم بمرشحيها من التكنوقراط. وهؤلاء التكنوقراط، سواء كانوا من المنتمين حزبيًا أو كتلويًا للجهات التي رشّحتهم أم لا، فهم في نهاية المطاف، سيكونون بالتأكيد جزءًا من منظوماتهم في تسريب المعلومات وتعويم الأفكار وإيجاد موطئ قدم في إدارة الوزارات وفي رسم سياساتها وفي الوصول إلى العقود والميزانيات التي يسيل لها لعاب اللصوص وتشمّها أنوفُهم وتقنصها آذانُهم عن بعد.
إذن، كلّ هذا الحديث ومثلُه كثيرٌ، قد يعيدنا إلى ذات المربع الأول، مربع التحاصص والاستحقاق والبحث عن السلطة والكعكة. وفي هذا، لن نحصد سوى هراءً في هراء. ف"حليمة ستعودُ إلى عادتها القديمة".
ومن ثمّ، فكلّ هذا الحراك السياسيّ القائم، والشارع الذي يغلي منذ أشهر في تظاهرات الجمعة، وذاك الدعم الذي نالته الحكومة الحالية ورئيسُها الضعيف المكبَّل بإرادة حزبه وتسلّط كتلته، والذي لم تنله شخصية من قبل من جانب المرجعية ومن الشعب على السواء، كلّ هذا وذاك، سيُلقى في النار التي يتوقع تأجُجها في حالة فرض المثلث الحاكم إرادتَه وتوالي صراعِه على المال والجاه والسلطة. فما يُحاك خلف الكواليس، وإن ظهرَ بعين المراقب طفرة نحو الأمام، فهو لن يتجاوز نظام المحاصصة والاستحقاق الذي تتنازعُه إرادة هذا المثلّث. حينها سيكون لكلّ حادث حديث! فالكيّ آخر العلاج، أي في البحث عن مخرج عميق يمسح تمامًا ما سطّرته طبشورة أحزاب السلطة منذ توليها الحكم وفشلها في إدارة البلاد والعباد.
وإنه لمن المهزلة أن يصف أحدُ المشاركين في الندوة الحوارية والمنتمي إلى حزب رئيس الوزراء المكلّف الحالي، بكون فترة الثلاثة عشر عامًا المنصرمة التي حكمت بها أحزاب السلطة، بفترة "تصريف أعمال" أو "تمشية أمور".
يصعب تصور مثل هذا التبرير أوالتفكير غير البريء. ولا أعتقد أن شهدت دول العالم مثل هذا النوع من الإدارة الانتقالية الطويلة. أمّا حصول ذلك في بلدٍ مثل العراق، ميزانيتُه تجاوزت أكثر من ثمانمائة مليار دولارطيلة مدة الثلاثة عشر عامًا التي مرّت، فهذه وصمة عار بحقّ أحزاب السلطة والكتل السياسية التي تربعت على عرش بطولات الفساد والمافيات وغسيل الأموال ونهب ميزانية الدولة والاستيلاء على عقارات وعسكرة المجتمع عبر الميليشيات التي تعمل بموازاة أجهزة الدولة الوطنية الأمنية من دون ردع ولا حدود.
من هنا كانت الحاجة الملحة "لبروز كتلة تاريخية عابرة"، سادت فكرَ الشارع الثقافي والسياسي والمجتمعيّ العراقي. وقد بدأ يتغنّى بها "الوطنيون" الشرفاء منذ فترة، وهي أيضًا، ما يمتنّاها المثقف والأكاديمي، العامل والفلاح، الطالب والمعلّم، الفرد والعائلة، وحتى السياسي مِن الذي وجد نفسَه محاصرًا بمعول "القلع والشلع".
فهذه تبدو اليوم أقرب ما تكون إلى الإنجاز والبروز إلى النور في قوادم الأيام نتيجة لضغط الشارع وتشابك الأحداث وتعاظم الصراع بين الكتل الحاكمة، وعلى رأسها الكتلة الشيعية الأكبر، المتهمة بالفشل الذريع بإدارة البلاد. فروّادُ هذه الكتلة العابرة قومٌ وطنيون، رفعوا شعار الوطن وعلمَ العراق وراية التنادي لعودة بلد الحضارة والسلام والتعايش والسلم الأهلي. وإنْ تتطلّبَ تشكيلُها تغييرًا جذريًا في العملية السياسية ككلّ، فالعراقيون لها، مهما تصدّى لها أصحاب السلطة وأربابُ الدكاكين من المنتفعين والسائبين وغير المنضبطين، ممّن لا يروقُهم التأسيس لوطن ديمقراطي مستقلّ في الرأي والانتماء والتوجه، خوفًا على العباءة التي يعتمرونها، وإن كانت هذه ظهرت وماتزال تظهر بصورة جلباب الدّين والمذهب. فالإصلاح الجذريّ المبتغى الذي تطالب به شرائح واسعة من المواطنين، والتي رفعها المتظاهرون مؤخرًا بدعمٍ ثابت من رجل الدين المجتهد الشجاع مقتدى الصدر، هو الذي أصبح سيّد المَطالِب، وليس الإصلاحات الترقيعية التي تبحث عنها أحزاب السلطة بسبب الخوف من ضرب مصالحها في الاستحقاق السياسي المتهاوي. بل إنّ مثل هذا التغيير الجذري "الضرورة"، وإنْ اعترضَ عليه نفرٌ من أركان هذه السلطة المتهرّئة بوصفِه انقلابًا على الدستور والاستحقاق المذهبي والحزبي، إلاّ أنه الأقرب إلى معالجة الفوضى ووضع الأمور في نصابِها بعد تفاقم الأزمة في البلد، اقتصاديًا وماليًا وسياسيًا ومجتمعيًا وأمنيًا وعلميًا وتربويًا وقضائيًا، والقائمة طويلة.
في المحصّلة،لا شيءَ غير هذا "البلدوزر" المتين، قادرٌ على تسيير قطار البلاد في السكة الصحيحة من أجل إنهاء ما تتنازع عليه إرادات أحزاب السلطة الحاكمة، وإبطال حكمها الفاشل. وهذا لن يكون متاحًا وممكنًا، من دون إخراج الدولة وانفكاكها عن شرنقة التحزّبات والمذهبيات والأحزاب، سواءً الملتحفة منها بعباءة الدّين أوتلك التابعة التي تنفذ أجندات دول الجوار والمنطقة. وهذا لا يعني، من جملة ما تعنيه فكرة التغيير الجذري، عدمُ إشراك الكفاءات الوطنية الكثيرة المتيسرة من داخل الحكومة. فكثيرٌ من هذه سلوكُها مهنيٌّ، وهي تتمتع بخبرات عميقة في مؤسسات الدولة، ولكنها أضحت رهينة أحزاب السلطة التي تتحكم بسلوك أدائها وتوجيه إداراتها ورسم سياسة المؤسسات التي تعمل فيها من خلال الإملاءات المتصلة بمصالح هذه الجهات الضاغطة المتحكمة، ما أفقدَ هذه الكفاءات المهنية وطنيتَها وحياديتَها مُكرهةً. بل إنّ تواصلَ بقائها ومشاركتها، من شأنه خلق مزيج متناسق من موظفين مهنيين خبروا العمل في مختلف دوائر الدولة، عند تطعيمهم بكفاءات علمية وتكنوقراط متمرّس من خارج التشكيلة القائمة التي استأثرت بالسلطة والقرار.
نترقب إذن، تشكيل "الكتلة العابرة" التي اتضحت معالمُها أكثر. وسنكون لها جميعًا، من الداعمين والمناصرين والمنتمين.
فالوطن يستحقّ الكلمة الحرة والوقفة الصادقة والتضحية الدائمة، تمامًا كما يريد المواطن وطنًا بقلب أمّ تحنو عليه متى قسا عليه الزمن وحاصره الأشرار، وتُقيتُه متى جاع وعطش، وتسهر عليه متى أصابه مكروه، وترشدُه متى زاغَ عن الطريق، وتحتضنُه كما الدجاجة تحتضنُ فراخَها متى حاصرته عوادي الدهر وترصّدته كوابيسُ الإرهاب والشّر والغدر. فالوطن، أنا وأنتَ وأنتِ ونحنُ وأنتم وأنتنَّ. ونحن كلّنا الوطن!
-------------------------------------
---------------------------
أعلى الصفحة
العودة للصفحة السابقة