خواطر
وكتابات عامة
الأقليات ذات أهمية عند الحاجة فقط،
فعلى مَن تبكي الذئاب والثعالب؟
لويس اقليمس
17
شباط 2016
يحظى أتباع الأقليات في دول العالم المتحضّر عادة، بامتيازات إنسانية وحضارية إضافية وبدعم ماديّ ومعنويّ معًا، تشجيعًا لحفاظهم على إرثهم الثقافي والدينيّ والإتنيّ معًا. وعادة ما يمتاز أبناء هذه المكوّنات التي حالت بفعل عوادي الزمن ومشاكل الحياة السياسية والحروب والنزاعات الإتنية والدينية والطائفية إلىكيانات قليلة العدد، بعوامل مضافة لتثبيت الكيان وتبيان مكامن القدرة والجدارة والتفوّق على أبناء البلدان الأصليين، أينما سكنوا أو حلّوا أو عملوا. وهذا أمرٌ مفرَغٌ منه في ضوء الخبرة التي علمتنا إياها الحياة اليومية.
في بلدان متخلّفة نفضتْ حضارتِها منذ زمن، كالعراق كنموذجٍ في المنطقة، سواءً بفعل الكبرياء أو الجهل أو الإصرار على الانكفاء على الذات والانعزال عن المجتمعات المتحضّرة والتظاهر بالتديّن ولبس عباءة الدّين، لا تُعار أهمية لهوية الأقليات وإرثها وقيمتها وحقوقها ودورها، مهما صدح هذا الأخير أو فاقَ أو تميّزَ. وفيما البعض يتباكى، خجلاً أو تملّقًا أو تشفيًا لغرضٍ في نفس عيسو، على أصالة هذه المجتمعات المتميّزة ودورها وجدارتها في مجمل شؤون الحياة اليومية، ومنها تفتّحها وتنويرُها على قبول المتغيّرات بيسر أكثر من غيرها وباحتفاظها بولائها للوطن دون غيرها بامتياز، فإنّ هذه الفئة المنافقة لا تتورّع في وضع العوائق وتشديد الخناق عليها بحجة أو بأخرى. ومن هذه الحجج والوسائل المنغّصة والاستفزازية، العمل أو الحثّ على إصدار تشريعات وسنّ قوانين تنتقص من وجود أبناء هذه الأقليات والجماعات وحقوقهم المواطنية المتساوية في ضوء الدستور والأعراف والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، تمامًا كما يحصل اليوم في المواجهة الحاسمة وغير المنصفة في إصدار قانون البطاقة الوطنية الموحد الذي ينتقص من مواطنية هذه الجماعات المختلفة دينيًا عن دين الأغلبية، والمفروض أن تكون متساوية في ضوء المواطنة. ففي حين يرى المشرّع تميّزَ دينِ الأغلبية السكانية وعلوَّه على غيره من أتباع ديانات أخرى بالرغم من أصالة هذه الأخيرة، فإنّه بهذه القوانين المجحفة بكلّ الأعراف الدولية والإنسانية، يفرّق ويميزّ المواطنين إلى طبقات وفئات وخانات تتعارض مع مبدأ التساوي في المواطنة. فالوطن بلد كلّ الجماعات باختلاف أديانها وتنوّع أعراقها ومذاهبها ولغاتها، ويفترض أن يجمعهم جميعًاتحت ظلّ دستور عادل يساوي في الحقوق والواجبات، في الأقلّ هذا ما تنص عليه العديد من بنوده، بالرغم من قصر نظر مشرّعيه حين وضعِه.
لغاية الساعة، ما يزال الوطن يئنّ تحت رحمة الفقهاء من جهة، والساسة المتسربلين بعباءة الدين في الظاهر حينًا، وغيرهم من المدّعين بالانفتاح الكاذب المخادع من جهة أخرى. فهؤلاء جميعًا، تجمعهم صفة الرياء وميزة الفساد وحب الجاه والمال والسلطة، علاوة على حبّ إقصاء الآخر المقهور حين يفتقر هذا الأخير إلى مقوّمات الدفاع وإثبات الذات بمظاهر القوّة وقدرة الميليشيات المنتشرة عند غيرهم، والتي أصبحت المعيار القائم في التعامل اليومي السياسيّ والإداريّ مع الحقوق والهوية. فعلى مَن يبكي هؤلاء الذئاب والثعالب، ساسة منهم ومنظماتٍ دولية ودولًا غربية تتفرّج على النكبات وواقع الحال؟ فقد استغلّ هؤلاء جميعًا، ومن دون استثناء طبيعةَ ما يجري لأتباع الأقليات واستغلّوهم حطبًا لنارٍ ليسَ لهم فيها لا ناقة ولا جمل ولا مصلحة في الصراع القائم منذ الغزو المشين في 2003، فوقع أبناؤُهم رهينة بين القوى والأحزاب والكتل المتناحرة. وكلّ هؤلاء الساسة وأحزابهم يجمعهم هدفٌ واضح: طلب السلطة والمال والجاه، فيما الأقليات ومجتمعاتُهم بمنأى عن كلّ هذه المطامع! وهذا خللٌ يدركُه القائمون على السلطة. ولكنهم قبلوه وطبّقوه لكونِه منزَلًا أو مغضوضَ الطرف عنه من القوة الغازية التي أدخلت أنفَها في كلّ صغيرة وكبيرة وسطت على إرادة الأحرار أو مَن بقي من السياسيين المحسوبين على التيار الإنسانيّ الديمقراطيّ الوطنيّ، حين رتّبت لاستباحة أرض العراق بتبريرات واهية أثبتت الأيام والوقائع أنها كانت مجرّد أوهام وأعذار لغزو البلاد وتمزيق نسيجه الاجتماعيّ المتعايش على مرّ الدهور والعصور.
إذاً، كلُّ شيء بدا وكأنّه طعنةٌ ظالمة من الظهر في خاصرة العراق المثخنة بالجراح وأهلِه، بدءًا من التبريرات الواهية التي أباحت استباحة الأرض العراقية في 2003، ومرورًا بالفتنة الطائفية، وظاهرة الانتقام من كلّ ما كان له صلة بالنظام المقبور، وعبورًا إلى واقع ظهور التنظيمات الداعشية الإرهابية وما شكّلته من تهديد ومن محن ومآسي بتهجير الآمنين والاستيلاء على ممتلكاتهم وقلعهم من جذورهم، لحين بروز الميليشيات المسلحة واستقوائها بزعامات دينية وسياسية داخلية وإقليمية ومحاربتها لأصحاب محلات بيع المشروبات الكحولية وفرض الحجاب على المرأة، ووصولاً للمخاوف المرتقبة من مغبّة انهيار سدّ الموصل، وأخيرًا وحديثًا ظاهرة الملصقات بواجهتها الدينية التي تريد نسف ما تبقى من الحياة المدنية المتحضّرة في بلد الفنّ والحضارات وواحة الشعر والخيرات، ومّن يدري ما سواها في قادم الأيام.
فكلّ هذه شواهد واقعية على تفتت عضد سبل التعايش المجتمعيّ وفقدان السلم الأهليّ وتواصل بروز ظاهرة الأصولية الدينية في مجتمع متعدّد الأديان والأعراق والمذاهب واللغات، واتخاذ هذه الأخيرة مديات متقدمة في ضوء غياب القانون وتقاعس الأمن والفوضى التي تعمّ البلاد، إضافة للأزمة الاقتصادية الخانقة واستمرار الفساد الذي نخر البلد ومؤسساته وما زال مستشريًا من دون محاسبة ولا ردع، ما ينذر بكونها دلالات ماثلة لقراءة علامات الأزمنة.
وبالرغم من المساعي الفردية هنا وهناك، والدعم والدعوات المتكررة من النخب الثقافية وتلك العائدة لمنظمات المجتمع المدني الرصينة منها حصرًا والفعاليات المدنية التي كلّت وملّت من المماطلة والتقاعس من جانب أجهزة الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية على السواء، إلاّ أنَ الوضع سائرٌ من سيّء إلى أسوأ، ولا بصيصَ أملٍ أو قليلَ رجاء فيما يرنو إليه هؤلاء جميعًا، ومعهم عامة الشعب المقهور. فأجهزة الدولة تكاد تفقد سيطرتَها وهيبتَها بسبب حالة التسيّب الحاصلة نتيجة انتشار الكثير من الميليشيات المسلحة التي بدت بديلاً عن مؤسسات الدولة التي تقف مكتوفة الأدي أو متفرّجة على ما يحصل، إلاّ على خجل بإصدار تصريحات مهزوزة فاقدة القوّة والتأثير. فالميليشيات تسرح وتمرح أمام أنظار أجهزة الدولة وهي التي تتحكم في حركة الشارع والسوق والحارة والمنطقة. أيُعقل العثور على راية لداعش في منطقة بشرق بغداد وفي شارع عمومي قبل أسابيع كما أُشيع، أو ملصقات متشدّدة تحمل شعارات استفزازية بين فترة وأخرى، بهدف فرض أجندة جهات سياسية برداء دينيّ، من دون معالجتها بشدّة من قبل الجهات الأمنية المعنية؟ فالهدف واضح ولا يحتاج إلى دليل أو تفسير. فهذه الأعمال المدانة، ترمي إلى ترويع الناس وإثارة الرعب والفزع في صفوف العامّة أو لأجل النيل من شرائح محدّدة في نسيج المجتمع العراقي، ومنهم المختلفون في الدّين أو القومية أو المذهب. فأين هيبةُ الدولة وأينَ أجهزتُها الأمنية، وما موقفُها من كلّ هذا التسيّب ومن مجمل هذه الأعمال وما موقف القضاء من هؤلاء الخارجين عن القانون؟ فما ترفعه هذه من شعارات وما تقوم به من أعمال، لا يختلف البتة عن تصرفات داعش الإجرامية وأخواتها. فالهدف واحد والشعار متناسق والفكر عينُه، فيما الأدوات متنوعة!
إنّ الأقليات الدينية والإتنية كانت وستبقى الأكثر تضرّرًا من كلّ هذه الأعمال الإرهابية التي توسع نوافذَ الكراهية وتزيد من خطابِها وسط المجتمع.
فهذه الأخيرة عند إضافتها إلى تهاون الجهة التشريعية بعدم إنصاف أتباع الأقليات من المختلفين في الدّين والمذهب والإتنية عن دين وقومية الأكثرية في البلد، وعدم قدرة الجهاز القضائي والتنفيذي على صدّ المتشدّدين في صفوف التنظيمات المسلحة الخارجة عن سياق قانون الدولة، بحجة تعارض ذلك مع الشرع الإسلامي، يكون البلد قد فقد كلّ سمات الدولة المؤسساتية ومنها الجيش، والتي لم يبقي منها الغازي الأمريكي شيئًا حينما حلّها جميعًا بعنجهية وظلم واستكبار، ليترك الوطن والمواطن فريسة بأيادي فئاتٍ كلُّ همّها الطمع المتلاحق لجمع أكبر قدرٍ من المال العام والسحت الحرام على حساب سلامة أرضِه وأهلِه ومصيرِه.
إن واقع الحال يشير أيضًا، وبما لا يقبل الشك، إلى استغلال مصائب أتباع الأقليات واستثمار أوضاعهم المزرية، لاسيّما الذين هُجروا قسرًا وأصبحوا بين ليلة وضحاها بلا مأوى ولا ثروة ولا مسكن. فقد اشتدّ تنافس الفرقاء السياسيين لكسب ودّ هذه الجماعات بوسائل وأساليب خسيسة حطّت من قدرهم ومن آدميتهم، وجعلتهم صيدًا سهلاً لمطامع الكتل السياسية والأحزاب ودول الجوار والغربالمتفرّج على السواء، سواءً من خلال شقّ صفوفهم وتوزيع ولاءاتهم بين الفرقاء المتصارعين مقابل منافع شخصية لأفراد أو لرجال دين أو شخصيات ثقافية تم شراءُ ولائها، أو من خلال حثّ ما تبقّى منهم على الهجرة وبلوغ الفردوس الموعود بعد انقطاع كلّ السبل والآمال بعودتهم إلى ديارهم على المدى المنظور. فإطالة تحرير مناطقهم المغتصبة من قبل داعش أو بسبب تهديد الميليشيات المنتشرة لسائر الأحزاب، العربية السنّية منها أو الشيعية أو الكردية في المناطق المحررة، دليلٌ واضح على قصد النية بإحداث تغييرات ديمغرافية وجغرافية وتاريخية في هذه المناطق.
ومَن ينكر أنّ في هذه الإجراءات مؤامرة أو ينفي ما يحصل، فهو لا يختلف عن ثعالب السياسة وذئابها، سواءً كان من أهل الداخل أو الخارج. فهؤلاء جميعًا، يستخدمون واقع الأقليات وحالَهم وطموحاتهم، ويكسبونهم أهمية عند الحاجة إليهم فقط. وهذا ما حدا مثلاً، بدول الجوار وأحزاب وكتل سياسية وحتى المنظمات الدولية وأخرى محلية للمجتمع المدني، باستغلال أوضاعهم المزرية ووهنهم السياسيّ للمتاجرة بمصائبهم والحصول على معونات ومنح بحجج تغطية المساعدات المقدَّمة إليهم، في حين أنّ واقع الحال يشير إلى أنَّ ما يصل النازحين والمهجَّرين لا يتجاوز النزر اليسير! وهذا بشهادة أصحاب العلاقة والمقرّبين من أصحاب القرار.
فالمؤامرة إذن قائمة، والهدف أكبر ممّا يتصوره قاصرو النظر والمصدّقون لأصحاب الأقوال المعسولة وكلمات الأسى والتعاطف التي تخرج من قلوبٍ صفراء لا تعرف الرحمة ولا تعترف بالخطيئة ولا تقرّ بالخجل، إلاّ على مضض!
-------------------------------------
---------------------------
أعلى الصفحة
العودة للصفحة السابقة