خواطر
وكتابات عامة
أقليات العراق: عزمٌ على قدر المشكلة
لويس اقليمس
الجزء الاول
29
تشرين الثاني 2015
قدرُ العراقيين، أن يعيشوا بؤساء، ذلاً وفقرًا، فاقة ووجعًا، حسرةً وتشريدًا، تهجيرًا واغترابًا، وما يقترن بكل هذه المفردات من حظوظ ميؤوسة ومن خيبة وخذلان في ظلّ حكومات متعاقبة شمولية أو فاسدة أو فاقدة للأهلية ولإدارة المجتمع والدولة على السواء. وما زلنا نعتقد مثل غيرنا أنه تحديدًا، لا سبب لهذا القدَر النحس، سوى الفشل البشري في توجيه دفة الحكم في البلد واستبعاد الاستفادة من ثرواته وطاقاته وقدراته البشرية والطبيعية جميعًا وتوجيهها نحو ما يبني ويطوّر ويخدم، دولةً وفردًا ومجتمعًا.
في المحن العراقية، وما أكثرها، لم ينجُ مكوّن ولا طائفة ولا دين ولا مذهب من المآسي المتتالية والمتصاعدة، سابقًا وحاضرًا، وربما لاحقًا، لا سمح الله! إلاّ أن ثقل تلك المآسي، بانت أكثر قسوة وأشدّ عتوًّا وأبعدَ تأثيرًا على أتباع المكوّنات الدينية والعرقية، أي الأقليات "الأصيلة"، التي تناقصت مع مرّ الزمن بفعل الاضطهادات المعلنة والخفية، على السواء. فلمْ يلحْ في الأفق طيلة السنوات المنصرمة من توالي المآسي عليها، ما يشيرُ إلى حماية هذه المكوّنات الوطنية الأصيلة ودعمها والشدّ من عزمها والحفاظ على ما تبقى من وجودها بالنتيجة. وكلّ ما حصلت عليه، سواء في السابق أو في الزمن العاتي الراهن، مجرّد كلمات تهدئة للتخدير وجبر الخواطر وأسف ملفوف بالشماتة أحيانًا كثيرة، انطلاقًا من الالتزام بحديث " أنصرْ أخاكَ ظالمًا أو مظلومًا".
هذا الكلام الأخير، بسبب من اصطفافه الديني والطائفيّ تقليديًا وشرعًا مع أتباع ديانة الغالبية والأكثرية،هو وحده كافٍ لضرب كشحٍ عن مآسي ومشاكل وصعوبات العيش الصعب لدى الأقليات المختلفة في دينها وعرقها وانتمائها عن هذه الأكثرية الحاكمة في البلاد. فكلّما تلوح في الأفق بشارات خير للتأسيس لدولة مدنية متطورة بحداثة العصر، أوغلَ السياسيون"المتأسلمون" ومعهم السائرون مع التيار الطائفيّ المتطرف، بفرض مفاهيم دين الأغلبية والشرع في القوانين والدستور. ويعلم الجميع أنّ هذا ألأخير، بُني أساسًا على مبادئ متناقضة تحدُّ من قيم حرية الفرد والمجتمع، بسبب تصادم هذه الأخيرة وتقاطعها أيضًا مع تقييد الشرع الإسلامي الذي ينكر أية حرية تخرج عن "حاكمية الله". ومن المؤلم والمخجل في آنٍ معًا، أنّ هذه الأخيرة تحدّدها تفاسير قديمة خائبة ومتخلفة، بل ومتناقضة في أحيانٍ كثيرة بحسب تنوع مدارسها ومقاصدها. وقد عفا عليها الزمن، ولم تعد معقولة ولا مقبولة مع تطور الزمن وتوالي الاكتشافات وانتهاء عصور الجهل والظلامية وحياة البداوة والكهوف والجمال.
لقد وُجدَ الشرعُ أساسًا، لخدمة الإنسان والمجتمع، وليس العكس! تمامًا، كما قالها المسيح يومًا لمنتقديه: "لم يوجد الإنسان من أجل السبت، بل السبتُ من أجل الإنسان". (مرقس، إصحاح27:2) وكذلك القرآن، تطرّق إلى قيم الإنسان وكرامته: "أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم ما فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً"(سورة لقمان: الآية 20). ومن ثمّ، فكلُّ القوانين والأحكام السارية، ينبغي أن تتوجه نحو خدمة مخلوقات الله الذي ينادي به الجميع ربًا وإلهًا، لا إله سواه، وليس لكبح حركاته وقمع توجهاته وتحديد حرياته، طالما أنها لا تتقاطع مع السلام ومحبة الغير وقيم العدالة والمساواة والأخوّة والعيش المشترك والرغبة ببناء علاقات حسن جوار وتعزيز مشتركات إنسانية تخدم البشر والبشرية جمعاء دون كراهية أو حقد أو إلغاء لوجود الآخر! فالسماءُ والأرض وما بينهما، كلّها من نعم الخالق الجبّار. لذا، فما أُنزلَ على الأرض من شرائع، وما يُسنُّ فيها من قوانين وما يصدر من أحكام، بموجب هذه الكلمات النيّرة، ينبغي أن تصبّ جميعُها في خدمة الإنسان والمجتمع والدولة، وليسَ العكس، أي بتكريس هذه الأخيرة ووضعها تحت رحمة القوانين والشرائع. فما فائدة القانون والشرع، إذا أفرغت البشرية من سعادتها وسُلبت المجتمعات من كرامتها والإنسان من حريته ومن جمالِه الذي أراده الخالق مخلوقًا، على شكله وصورته ومثاله جميلاً وحسنًا!
للأسف الشديد، ما تزال بعض منابر الجمعة وغيرها في مناسبة ومن دونها، توغلُ في إبراز حقد دفين على أتباع الديانات غير المسلمة، بالتحريض على مقاتلة هؤلاء المختلفين دينًا ومذهبًا وعقيدة. فقد حصل ذلك مرة أخرى، يوم الجمعة 13 تشرين ثاني في إحدى مناطق شرق بغداد، حين أعاد خطيب الجمعة عبارة تنمّ عن الكراهية ضدّ اليهود والنصارى، بترديد عبارة "قاتلَهم الله". وهو كان يقصد "المسيحيين منهم حاليًا بطبيعة الحال"، بالرغم من أنّ المقصود بالنصارى في القرآن في زمانه، ليس المسيحيين الحاليين، بل فئة ضالّة كانت قد خرجت آنذاكَ عن المعتقد المسيحي الصحيح في أيام الدعوة الإسلامية. أسرد هذه الحادثة الجديدة مثالاً لخطاب الكراهية والتطرف الذي يتكرّر في منابر أخرى هنا وهناك، داخل وخارج أرض الوطن، والذي ينبغي التنبه له وقطع دابرِه، بسبب روح الكراهية الذي يمكن أن يخلقه وسط المجتمع، في حين، يتجه المجتمع الدولي قاطبة للترويج لثقافة التسامح ونشر منهج الاعتدال والوسطية والحوار وقبول الآخر المختلف وعدم الانسياق وراء تفاسير ضيقة وقاصرة أصبحت من الماضي.
معاناة متواصلة وعزمٌ لحماية ما تبقى من الوجود
لقد عانت الأقليات الدينية بخاصة، بل العراقٌ كلُه والمنطقة والعالم، من نتائج الخطاب الدينيّ والطائفيّ المتطرف الضيق. وها هي البشرية تحصد نتائجه الخائبة التي قوّضت السلم الأهليّ وفصلت الروح عن الحياة التي فقدت هي الأخرى قيمتَها وسرَّ وجودها على الأرض. فبعد اشتداد المحنة على أبناء الأقليات الدينية في السنوات الأخيرة، وما آلتْ إليه أوضاعُهم بتشريدهم من مناطقهم الأصلية وتهجيرهم منها قسرًا، ها هم يتعرضون اليوم إلى ضغوط داخلية أخرى من قبل ممثلي بني جلدتهم ومواطنيهم الذين يتباكون عليهم علنًا ويضمرون لهم غير هذا وذاك.فقد جاءت موضوعة إقحام الدّين وفرض شرع الأكثرية في المادة26/ الفقرة 2، من قانون البطاقة الوطنية الموحدة، تأكيدًا على تناقض الأفعال مع الأقوال. فهذه الفقرة المقحمة في هذا القانون الوطني، تتناقض كلّيًا مع مبدأ المواطنة والمساواة أمام الدستور والقانون. وهي تتناقض بالتالي مع كلّ المبادئ الإنسانية والحريات الشخصية والمجتمعية التي توصي بها الأحكام والأعراف والمواثيق الدولية التي أقرها المجتمع الدولي وصادقت عليها الدولة العراقية.
إزاء هذه الإشكالية، كان على المراجع الدينية غير المسلمة أن تنبري وتتحرك على جميع الصعد، كواجب منها في حماية أتباعها والحفاظ على ما تبقى من وجودهم المتناقص يومًا بعد آخر، ووضع حدّ للتهالك غير الوطنيّ في موضوعة المواطنة وحقوقها، والعمد بالإيغال في تعميق النظرة الدونية من جانب جهة تشريعية ضدّ أديان الأقليات وأتباعها. وهذا ما فعلته هذه المراجع، حين طرقت الأبواب الوطنية والحكومية والدينية والشخصية بهدف جلب الانتباه للتداعي الذي ستسببه المادة ال 26 (الفقرة ثانيًا)، في حالة المصادقة عليها نهائيًا من قبل الرئاسة، بعد إقرارها من قبل البرلمان "غير الموفق، بسبب طائفيته"، وغير المدرك تمامًا لمدى الضرر الذي ستلحقه هذه المادة "التمييزية العنصرية" ضدّ أتباع الأقليات المختلفة عن دين الأغلبية وضدّ أديانها بالتالي. وحسنًا، فعل رئيس مجلس النواب، ومثلُه الرئاسات الأخرى ومجلس القضاء الأعلى، حين وعدوا بفعل ما ينبغي فعلُه كواجب وطنيّ يفرض عليهم تحقيق المساواة والعدالة في أساس المواطنة. حصل هذا، في الوقت الذي لم تلملم الأقليات الدينية جراحاتها بعدُ، بعدَ السماح بتهجير أتباعهم قسرًا ونهب ممتلكاتهم وسلب أموالهم وهتك أعراضهم وتعريضهم لشتى أنواع التهديد والقهر والتمييز والخطف والقتل، ما دفع الكثيرين منهم للهجرة والاغتراب رغمًا عنهم!
لقد مرّ أكثر من عامٍ على المؤامرة الدنيئة التي حيكت ضدّ هذه الأقليات في سهل نينوى بالذات، وهو الموطن الأصيل لأتباع الديانتين المسيحية والإيزدية تقليديًا، على سبيل المثال، وهما من أقدم الديانات المسالمة التي سبقت قدوم الإسلام. وما يزال المجتمع الدولي، يتفرّج على المأساة ويصرف أنواع الأسلحة المتطورة لمحاربة تنظيمات إسلامية متشددة من أمثال "داعش"، التي سمحت لها القوى الكبرى كي تنمو وتنتعش وتحتلّ أراضي ومناطق شاسعة في كلّ من سوريا والعراق، وبلدان ساخنة أخرى غيرها، في مؤامرة دنيئة اشترك في حياكتها سياسيون وأحزاب وقوى نافذة، وبدأت تتكشف خيوطها وتتعزّز شكوكُها، ولاسيّما بعد تحرير منطقة سنجار.
مختلف الأحداث المأساوية تشيرُ إلى جهة أو "دولة" تخطّط بعناية فائقة، وهذه تنسقّ مع أخرى كبرى لتقرير مصير الحاكم والدولة والمنطقة، جنبًا إلى جنب مع جهة أو جهات عديدة تتولى التمويل والدعم والتحريض. فهناك إذن، دولة تخطّط، وأخرى تقرّر وغيرُها تموّل وتصرف المليارات. وكلُّ هذه تجري أمام أنظار المجتمع الدولي وبعلم المنظمة الدولية التي تنصاع للأقوى، ولا تفعل غيرَ جبر خواطر المتألمين والمفجوعين بكلمات التهدئة والسلوان والصبر التي لا منتهى لها ولا فائدة مرجوة منها، طالما أن اللاّعبين الكبار هم أسياد العالم الذين يتحكمون بضمير الشعوب والأمم والدول والبشر.
-------------------------------------
---------------------------
أعلى الصفحة
العودة للصفحة السابقة