خواطر
وكتابات عامة
المتاجرون بمآسي العراق وأقلياته
لويس اقليمس
الجزء الاول
26
نيسان 2015
لا أحد ينكر ما يتعرّض له الشعب العراقيّ عامةً من نكوص وانتكاسات ودسائس داخلية وخارجية مستهدفةً كيانَه وحضارتَه وهويتَه ونسيجَه الاجتماعي التقليديّ المتكاتف المعروف عنه. فالمؤامرة عليه تحوّلت إلى فعلٍ دوليٍّ شاخص، وبرعاية أميركية -إسرائيليةبامتياز، وبسكوت من الغرب المتخاذل الذي انساق وراء الثنائيّ المذموم الذي يدير اللعبة بلا حياء، بأسلوب استعلائيّ خالٍ من الأخلاق.
لذا، لم يهتزّ الضميرُ الأميركي إلاّ خجلاً مصطنَعًا ولا رفتَ له جفنٌ إزاء ما حصل في العراق بخاصّة، إلاّ لغاية فيها مصلحتُه القومية العليا ومصلحة ربيبتِه في المنطقة، بالرغم من توافر الكثير من خيوط اللعبة بين أياديها.كما أنّ الغربَ الأوربيّ الذي اكتفى بالتنديد حينًا والسكوت حينًا آخر، لم يبادر حثيثًا لإيجاد حلولٍ عاجلة لمآسي الملايين من العراقيين الذين طالهم التهجير والطرد من ديارهم وقراهم ومدنهم التقليدية التاريخية، تمامًا مثلما تفرّج على مآسي السوريين واختارَ دعمَ تنظيمات مسلّحة، ظاهرُها مقاومة لدكتاتورية الأسد وباطنُها إرهابٌ دوليٌّ بامتياز ينفّذُ أجندة الأسياد بحسب الظرف. لقد صرخت الحجارة منددة بما يُقترف من جرائم بحق أناس أبرياء وشعوبٍ مسالمة، بعد أن لفَّ الصمتُ قادة الدول المتمدّنة ردحًا من الوقت حتى فاقوا على حجم الكارثة وهول المحنة، قبل أن يصلهم الطوفان. فالصمتُ مهما كان، قصرَ أو طالَ، فهو دلالةٌ على التواطؤ والاشتراك مع ما يجري بطريقة أو بأخرى.
لقد كشفت الأيام والوقائع، أنّ هذه التنظيمات قد صُنعتْ بأيادي مخابراتِية وأدواتِ إقليمية ومحلّية، وبوحيٍ سوقيٍّ من أجهزة الغرب الأمنية بقيادة سيدة القطب الواحد، أميركا الرامية لتغيير خارطة المنطقة على حساب المكوّنات المستضعفة من الأقليات الدينية والاتنية التي تتقاذفُها أمواج الغرب الطامع وأفواجُ الإرهاب المنفذة لجزء من الدور المنوطِ بها لإكمال المؤامرة بالكيفية المرسومة لها. فالكلُّ يتاجرُ اليوم، دولٌ وسياسيّون ومنظمات دولية وإقليمية ومحلية، بمأساةَ النازحين والمهجَّرين ويستغلّون الوضعَ للحصول على مكاسب ومنافع. بل لم تتورّع جهاتٌ سياسية وحزبية ودينية في ابتزاز دولٍ ومنظمات وتسخير عطاءاتِ هذه الأخيرة لتصبَّ في صناديقِها الخاصة بحجة تقديم يد العون والغوث لملايين النازحين والمهجَّرين، داخلَ البلاد وخارجَها. إلاّ أنَّ الحقيقة الغائبة عن أذهان الجهات المانحة الرصينة غير التجارية، التي تجهل أسلوب عمل منظمات الغوث والمساعدة العاملة في الحقل وعلى الساحة، قد تُصابُ بالذهول إذا تلقت حقائق حول استغلال الجزء الأكبر من هذه المنح والعطايا والتبرعات في تسديد مرتبات وإيفادات وسفريات أفراد هذه المنظمات وإيجارات سكنها، والتي تدّعي عملَها على أساسٍ تطوّعيّ، مستغلّةً أحيانًا وسائلَ الإعلام الذي ينشر لأفرادها صورًا استعراضية أثناء تسليم مواد إغاثة من أجل الدعاية، ليسَ إلاّ. وهذه في الحقيقة، إنْ هي إلاّ وسيلةٌ مضافة لإهانة المحتاج والّلاهث وراء سدّ الرمق بعد أن انقطعت به السبل وفقدَ كلَّ ما له، حتى كرامتَه!
تدمير حضارة آشور، لماذا؟
ما قامَ به تنظيم داعش الإرهابيّ في سابق الأيام وما يزال، من سرقة آثار حضارة العراق الآشورية العظيمة بهدف المتاجرة بها دوليًا، وتجريف المواقع الأثرية في شمال الوطن وتدمير الشواخص واللقى والتماثيل والمزارات الدينية المختلفة، لَهُو فعلٌ جنونيٌّ أرعن، لا يمتُّ بصلة لأيّة أخلاقٍ ولا ديانةٍ ولا جماعةٍ بشرية فيها ذرّة إنسانية من عرفانٍ للإله الواحد، الذي يدّعي هؤلاء وأمثالُهم عبادتَه والتحدّث والحكم والنطق باسمه، بل والقتل تحت راية ترفعُ اسمَه. أيةُ بربرية هذه، التي يعيثُ فيها هذا التنظيم فسادًا، فيما المجتمع الدوليّ يقف عاجزًا عن صدّ هذه الهجمة الشرسة التي لم يعرف لها العالمُ مثيلًا، حتى على عهد جينكيزخان وهولاكو. ألمْ يرفض أقوامُ البرابرة أنفسُهم تسمية أفعال "داعش" بالبربرية؟ ذلك لأنَّ أسلافَهم، لم يصلوا لاقتراف حدود مثل هذه البشاعات في تاريخهم، وهم المعروف عنهم تقليديًا بالتوحش والبطش.
قد يسألُ سائل: لماذا هذا الحقد الأفّاك على حضارة آشور العظيمة بالذات من قبل هؤلاء الأوباش، سفّاحي العصر وكارهي الحياة والعطشى لسفك الدماء؟ ويأتي الجواب بسيطًا وسهلاً في التحليل والاستنتاج.إنّ أسلافَنا الآشوريين قد علّموا اليهودَ درسًا في البلاغة الإنسانية بكسر شوكتِهم وإخضاعِ دويلتِهم في الشمال (إسرائيل) للحكم الاشوري بقيادة الملك سنحاريب في 697 ق.م. وأعاد الملك البابلي نبوخذنصّر الكرّة في 586 ق.م.، ليغزو هذه المرّة مملكة الجنوب في اليهودية وينهي بذلك أيَّ وجودٍ سياسيّ جغرافيّ لليهود في المنطقة.ومذ ذاك التاريخ، والحقد اليهوديّ يستعرُ في مخيلة أجيالِه، متحيّنًا الفرص لاسترداد شيءٍ من مهابة الشعب اليهوديّ المسبيّ من أسلاف العراقيين الشجعان، والتعويض عن الإهانة التي خبرَها هذا الشعب العاقّ لإلِهه في أيام السبي المهينة. وقد وجدَ في وحشية هذا التنظيم الإرهابيّ خيرَ منفّذٍ لهذه الأجندة الحاقدة على العراق وشعبِه. فكان لهُ ما أرادَ وحلمَ به.
اليوم، بفضل الرئيس المثير للجدل " بارق أوباما حسين"، ذي الأصول الإسلامية والمتعاطف مع التشدّد، قويت شوكة الإرهاب وتشعبت، وكلُّها تصبُّ في تحقيق مشروعِها الكبير لتحقيق المصلحة القومية العليا لأميركا وحلفائها الدوليين وفي المنطقة، ولاسيّما إسرائيل المدلّلة. فقد استطاعَ أوباما خداعَ العالم ومعه الشعب الأمريكي بكاريزميتِه الخطابية، لينفردَ هو ونائبُه "بايدن" اليهوديّ المتغطرس باستكمال ما كانَ بدأَهُ الحاقد اليهوديّ على الشرق "كيسنجر"،بنيّة بلادِه تغيير خارطة الشرق الأوسط وفق رؤى ومصالح أميركا القومية. لذا، وجدَها فرصةً ذهبية حان وقتُ لعبِها باستخدام كيانٍ مسخٍ أوجدَه لإتمام صفحة أخرى من ألاعيبِه ضدّ بلدانٍ بائسةٍ تطفو على بحيرات من ذهب دون أن يعرفَ أهلوها الاستفادة منها واستغلالَها لمصلحة شعوبِهم وتطويرِ بنيتِها وتنميتِها من أجل رفاهتِهم. فالعراق الذي يُعدّ آخر برميلٍ للنفط يُستخرجُ منه، لم يعرف عبر حكوماتِه المتعاقبة قبل وبعد الاحتلال، ترفيهَ مواطنيه واستغلال هذه الثروة من أجل بناء سايكولوجيتِه المهزوزة وتقويم شخصيتِه المزدوجة عبر تاريخه الطويل وتعزيز نسيجِه الاجتماعيّ المتعاضد تقليديًا. كما أنَّ ثرواتِه الكثيرة واستعداداتِه المتنوعة لم ولنْ تكونَ، كما يبدو، دعاماتٍ تدخلُ في تعزيز أسس تنوعِه الدينيّ والاتنيّ الثري.
تنظيمات إرهابية لتنفيذ المخطَّط
تمامًا، كما فعلتها أميركا ومعها الغرب الخانع في أفغانستان، بخلق المسخ "طالبان" المتشدّد، أداةً لمحاربة غريمهم السياسيّ العالميّ المتمثل بالاتحاد السوفيتي سابقًا، للحدّ من نفوذ الأخير دوليًا وفي عموم القارة الأسيوية الغنية بالثروات النفطية والغازية بخاصّة، ألحقوها فيما بعد بالتهيئة لتنظيمات إسلامية متشدّدة في مناطق صراع أخرى، ولكنْ على أسسٍ دينية وطائفيّة هذه المرّة. فبعد مؤامرة إسقاط النظام السابق في العراق في 2003، طرحت أميركا والمتحالفون معها دوليًا وإقليميًا، نسختهم الجديدة من "القاعدة"، المسخ الأخرى، والمتمثلة بتنظيم "داعش" الإرهابيّ السلفيّ المتشدّد حدَّ النخاع. وبفضلِ هذا الأخير وأدواتِه وأفكارِه الأصولية المتشدّدة التي فاقت التصوّر في القتل والنهب والتكفير والتدمير والسبي والنكاح واقتراف أقبح الموبقات، أرادوها اليوم حربًا على شعبٍ عريقٍ وحضارة خالدة وثقافةِ عربية وعراقية ناصعة تفوّقت في غابرِ الزمان على حليفِهم سليطِ اللسان والمعاند المكابِر، إسرائيل، بعد أن أذاقَهم أسلافُنا الآشوريون الجبابرة المرَّ والهوان،بسبب عجرفتِهم.وأخيرًا وليسَ آخرًا،كانت ولادة"بوكوحرام"و"الشباب الصوماليّ" وأمثالُهم وفروع الدولة الإسلامية في أفريقيا ودول المغرب العربي، إلى جانب فصائل"القسّام"وتنظيمات"الإخوان" الجديدةالقديمةونظرائهم ومالفَّلفَّهم من كتائب وسرايا وتنظيمات سنيّة وشيعيّة كثيرة عجيبة غريبة، تكفّرُ وتحاربُ بعضَها البعض.
بعد تمكّن تنظيمات "داعش" من إحكام قبضتِها في مناطق واسعة في كلّ من سوريا والعراق، وامتداد نفوذِها عالميًا، بعد إعلان العديد من التنظيمات المتشدّدة ولاءَها لدولة "الخرافة" التي شكّلَها، والتحاق مسلّحين أجانب طمعًا بالمال ونكاح الجهاد، وإجبار الأهالي للانخراط في صفوفِهم بحجة محاربة الشيعة الطامعين، بدأت صفحة جديدة للشرّ والانتقام، بسرقة آثار حضارة العراق وتجريفِ مواقعِها وتدمير ما يذكّرُ بها بالفخر والاعتزاز. لقد استغلَّ الطاغوت الأمريكي واللوبي الصهيونيّ ودول الغرب السائرة في ركابها، سلوكيات طاغية العراق السابق وتحدّيَه لها لتبرير غزوِه لهذا البلد المبتلى بسياسيّيه غير الحريصين على وحدةِ ترابِه وطيبِ هوائِه وغنى ثرواتِه. فقادَ غزوَه في 2003، مجيِّشًا عليه دولاً ومنظماتٍ وكياناتٍ منتفعة من زوال النظام المقبور. ولو أنَّهُ نوى خيرًا لشعب العراق، لكانَ أمكنَه من إسقاط الطاغية ونظامِه بوسائل أخرى، تمامًا كما فعلَ ذلك مع غيرِه، من أمثالِ نوريغا وبينوشيه وغيرِهما، أو كما فعلَ ذلك في إسقاط غريمِه "الاتحاد السوفيتي" بالطريقة الذكية التي هيّأها له. إلاّ أنَّ الأهدافَ بدت أكبرَ من هذا وذاك بكثير. فعملية خلق الكيان الإسلاميّ المتطرّف "داعش" بالتعاون مع حلفاء في المنطقة، والعمل على تمدّدِه وبسطِ نفوذِه فترةً من الزمن، عملية ممنهجة وهي تسيرُ ضمن السياق المرسومِ لها لغاية تحقيق الأهداف والغاياتِ العليا للمصالح القومية الغربية في المنطقة. وهذا ما تشيرُ إليه كلُّ التسريبات والتصريحات، بنيّة الأمريكي امتداد الحرب على الإرهاب الداعشيّ لسنواتٍ. بل هناك مَن يرى، أنَّ الأمريكي والغرب عمومًا، لا ينوون القضاءَ عليه بل احتواءَه وتحجيمَه وجعلَه جنديًّا احتياطيًّا وبيدقًا جاهزًا لتنفيذ المطلوب منه متى وأينما وكيفما أُريد ذلك.
الأقليات في أتون نارٍ محترقة
صحيحٌ أنَّ الشعبَ العراقي عامةً، عانى ومازالَ يعاني من البؤس مادّيًا واقتصاديًا وخدميًا، ومن التهميش والطائفية والمحسوبية سياسيًا ووظيفيًا واستحقاقًا وطنيًا، إلاّ أنَّ حالَ الأقليات فيه، أكثرُ تدميرًا وأعمقُ تجريفًا لحقوقِها وكياناتِها وهويّاتِها الضعيفة، لعدم قدرتِها على مقارعة الظلم الذي لحقَ بها بسبب الدستور الأعرج الذي وضعَها في خانة المواطنة الثانية والثالثة والرابعة،باقتصارِ حكم البلاد على ثلاث مكوّناتٍ تتحكّمُ بمصيرِه وتسودُ ثرواتِه وتسرقُ عقاراتِه وممتلكاتِه، كلٌّ بطريقتِها ووسائِلها وألاعيبِها المكشوفة والخفية على السواء.
ولعلَّ ما تعرضُه قنوات إخبارية كثيرة، ولاسيّما البغدادية، من مخالفات وصفقات فساد وسرقات لقوت الشعب، تقف لها شعورُ رؤوس المحبّين للوطن والحريصين على تعافيه وعودة الروح الوطنية إليه بعيدًا عن الجماعات الحاكمة والمتحكمة فيه على أساسٍ توافقيّ وتحاصصيّ لتقاسم الثروات فيما بينَها. وكأنّي بمَن قدموا من خلف الأسوار في 2003، جاؤوا فقط لاستلام حصصِهم الموعودِ بها واستلاب ثروات البلاد بطرق ووسائل شيطانية، بعدَ أنْ يسّرَ ومهَّدَ لهم ذلك الحاكمُ المدنيّ سيّء الصيت، "بريمر". فيما جعلَ هذا الأخير أبناءَ الأقليات في مرمى هذا المثّلث الحاكم،الذي استغلَّها هشيمًا دائمًا واحتياطيًا لزجّها في أتونحربٍ طائفية شرسة لا ناقةَ لهم فيها ولا جَمل. فجلُّهم من جماعات مسالمة لا تعرف حملَ السلاح لا بوجه الصديق ولا ضدَّ العدوّ على السواء. كما لا ميليشيات مسلّحة لهم للدفاعِ عن ممتلكاتِهم وأراضيهم ومنازلِهم وحرائرِهم من شرّ كيد الأعداء، داخليًا وخارجيًا.
لقد استبيحتْ مناطق هذه المكوّنات بين ليلة وضحاها، وقُلعَ أهلوها وأبناؤُها، واستؤصلوا منها عن بكرة أبيهم، بطريقة دراماتيكية مسرحية شائنة وسط أنظار العالم كلّه وبتواطؤٍ من سياسيّي البلد عبر صفقاتٍ، قد لا تُكشف حتى بعدَ حينٍ، بسبب الخيوط المتشابكة للمتشاركين في المؤامرة. ونخشى أن تصل هذه إلى طريقٍ مسدود وفق توافق "طمطمْ لي وأطمطْم لَك" و "أنتَ هص، وآني هصْ، وإلاثنان بالنصّ". فالفسادُ وأوجهُه المتعدّدة المكشوفة والمقنَّعة، قد نخرَ جسدَ الدولة وأنهكَ عملَ مؤسساتِها وأفرغَ خزينتَها، ولا أحدَ باستطاعتِه الكشف عن مواقع الصرف وأبوابِه أو الجهات التي صُرفت لها المبالغ الطائلة التي هتكت عرضَ الخزينة الاتحادية لولايتين متتاليتين. فالكلُّ مشترك بطريقة أو بأخرى باستنفاذ مليارات الدولارات من قوت الشعب بطرق ووسائل مبتكرة من السرقة والصفقات المشبوهة التي يعسرُ التحقيق فيها. إذ لا مجالَ لمثل هذا التحقيق، بسبب تشابك الخيوط والأشخاص من مختلف المكوّنات والشخصيات النافذة التي تغطّي على بعضِها البعض مضطرّة، خشيةً من انكشاف تورّطها جميعًا أمامَ الشعب والرأي العام، بالرغم من يقين الجميع بتورّط هؤلاء جميعًا في اللعبة. ومَن يتحدث أو يكشف عن تفاصيل بإثباتات وحقائق موثّقة، يكون مصيرُه خارجَ السرب، لأنَّ تغريدتَه غير مرحَّب بها في زمن السرقة والنهب واستغلال المناصب والظروف!
اليوم تشهد الأقليات العراقية الدينية منها والاتنية، الأمرّين، أهونُهما مرٌّ، وهو البقاءُ صبرًا وجلّدًا وأملاً ورجاءً في بلد الآباء والأجداد الذين ترقى جذورُ حضارتهم إلى آلاف السنين. وها هي ذي الأخيرة، هي الأخرى، تُقتلعُ وتتهاوى بفعل ضربات مطارق أعداء الحياة وكارهي المحبة والحاقدين على كلِّ ما تسمو إليه الحضارة والمدنية والحداثة. فما بقي لهذه المكوّنات المتناقصة اضطرادًا، من وجودٍ وقيامٍ وكيانٍ في هذه الأرض الخربة، إلاّ أنْ تنفُضَ عنها باقي بقايا الغبار الذي علقَ بخفّي أبنائِها الحيارى المتسائلين: أينَ المجتمع الدولي من كلّ هذه الفظاعات؟؟؟ وأخشى لو طالَ الانتظار، أنْ يخسرَ الوطن ما بقي من أفرادٍ وطنيين ومن بقايا كفاءات ومثقفين رصينين قد ينتظرون دورَهم للبحث عن ملاجئ أخرى أكثرَ أمنًا واحترامًا لآدميتِهم وأفضلَ تقديرًا لكفاءاتِهم. فالبلدُ الذي لا يحترمُ أبناءَه، لا يستحقُّ خدمتَهم وحرصَهم ودفاعَهمعن مصالحِه التي أضحت مصالحَ قوى طائفية متصارعة من أجل الجاه والمال والمنصب!
ومع تواصل الهجرة التي تشجّعُ لها جهاتٌ وتحرمُها أو تستنكرُها غيرُها، وقعَ ابنُ العراق ومعه شريكُه المفروض في الوطن ابنُ الأقليات بخاصة، في حيرةٍ من أمرِه. فضاعَ هذا وذاكَ بين هذه الدعوة أو تلك، تمامًا كمَن احتارَ تسليمَ أمرِه للقدر بسبب ضبابية الموقف واستمرار تقهقرِ الحياة في كلّ جوانبِها وتواصل عدم الاستقرار وفقدان الأمن. فإلى متى الصبر؟ وهل من أملٍ في المستقبلِ القريب؟ كلُّ الدلائل تشيرُ إلى قتامة الوضع وسوداوية المواقف وعدم الانفراج على المدى القريب والمتوسط. وهذه القراءة القاتمة، قد حفّزت وماتزال تحفّزُ أناسًا بعيدين عن مواقع الصراع للتخلّي عن الأرض وما تبقى من الأهل والممتلكات التي أصبحت في حوزة "دولة الخرافة"، بين ليلةٍ وضحاها، بفعل اتفاقٍ سرّيٍ بين ساسة البلد من المثلّث الحاكم، إرضاءً لمصالِحهم الفئوية الضيقة.
قبلَ أيامٍ، صُدمتُ بفتاتين من بغداد، ليسَ لهما علاقة بالأحداث، لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ، وهنّ تنويان الهجرة وطلب اللجوء في دولة غربية فتحت بابَ اللجوء للمهجَّرين من المسيحيين والإيزيديين أساسًا. وعندما عدتُ للمنزل، سرحتُ بعيدًا في فكري، وتساءلتُ: هل أنا وأهلي وعائلتي وأقربائي، بهذه السذاجة في الالتصاق بالأرض التي نفضتنا قبل أن ننفضَها بسبب خرابِها وجدبِها، والتمسّك بالدولة التي طبّقت فينا كلَّ مراسيم التهميش والإقصاء والاستبعاد، فيما إعلامُها وسياسيّوها يستخفُّون ويتقاذفون بنا مواطنين أصلاءَ حينًا، وجالياتٍ حينًا آخر، وأتباعَ الغرب الكافر في غيرِها؟ فالمُطالِبُ والراغبُ بالهجرةِ أصبحَ اليومَ قياسًا، فيما المتجلِّدون الصابرون المتشبثون بالأرض أصبحوا استثناءً! معادلةٌ قدريّةٌ صعبةُ الفهم والاستيعاب قد فرضتها الأحداثُ. وما علينا إلاّ إعادة التفكير واتخاذ القرار الجريء، بعد يأسٍ من عدم الاعتراف بمواطنيتنا وحقِنا في المشاركة في حكم البلاد وإدارتِها، اسوةً بالغير القادم من خلف الأسوار. فلا بدَّ من خطوة جريئة، وليكنْ ما يكون! وحينئذٍ، لكلِّ حادثٍ حديثٌ.
-------------------------------------
---------------------------
أعلى الصفحة
العودة للصفحة السابقة