إنّ غيابَ الجهد بدءًا، لا أجد حرجًا في كتابات العديد من الكتّاب والمثقفين وأصحاب المداخلات والتعليقات التي تتصدّر مواقع التواصل الاجتماعي على تنوّعها، بالرغم من خروج بعضها عن سلوك أخلاقيات الكتابة والردود غير المستساغة أحيانًا. فحرّية التعبير والرأي مقدّسة، طالما ارتضى الواحدُ منّا بمبدأ التفاعل مع الكتابة وإبداء الرأي وعرض ما لديه في جعبتِه.
أنا بطبعي، حريصٌ على متابعة ما يستجدّ على الساحة السياسية الوطنية من كتابات وتعليقات، وما يخصّ الهوية المسيحية و"القومية" فيها بالذات، كما يطيبُ لجهاتٍ التشبّث بدور هذه الأخيرة، بالرغم من الخلافات القائمة حولَها والتي لا يخفي فيها دعاتُها فرض الإرادة والرأي في أغلب الأحيان، ولاسيّما في المحافل والمؤتمرات. وأجزم القول، أنَّ مجملَ التعليقات والمداخلات لا تعنيني كثيرًا، لأنّها في أغلبِها سطحية، بل رغوة طافية لا تستندُ إلى عمق فكريّ واتّزان في إبداء الرأي وفي النقاش المتحضّر. فهذه تعبّر عن آراء حامليها، وليس بالضرورة عاكسة لآراء وأفكار الجهات التي ينتمون إليها.
لذا، أرتئي ألاّ أدخل في تعرجاتها الخطرة التي قد ينزلقُ إليها أصحابُ المبادئ، إنْ تيهًا أو إسفافًا. كما أدعو ألاّ ينجرّ إليها الكاتب الرصين، صاحبُ الفكر البنّاء الذي يبحث عن الحلّ وليسَ تأجيجَ المشكلة، لخروج بعضها عن إطارِ أدب الكتابة والرصانة في النقل والرأي. وهنا يكون عدم التعليق والمداخلة على ما يُطرح، فيه حكمةٌ وروية، إلاّ من خلال المشاركة في إطار مقالات ومواضيع دسمة وجادّة وهادفة تستوفي شروط البحث والدراسة، والتي أجدُها أكثر رصانة وثقلاً من حيث الكتابة الأدبية وفنونِها وتعمّقها في معالجة الحدث والمشكلة، وما أكثرَهذه عندنا. فما عندي من خزين فكريّ متنوّع وطروحات وآراء في مواقف ومجالات متنوعة، أراهُ يلبّي ما أريد تقديمَه للقرّاء عندما أدلو بدلوي في شؤون الساعة، وطنيًا ومسيحيًا وكنسيًا واجتماعيًا وسياسيًا وما يُسمّى "قوميًا" أيضًا، بالرغم من إيماني الضعيف بفاعليّة العنصر الأخير وتعرّضه للقرصنة والاستغلال من قبل طارئين على شأنِه وعلى شؤون السياسة بالسواء! كما أنّي أحترم الرأي الآخر، متفقًا معي أو مختلفًا، طالما أنّ الهدف والغاية يكمنان في إيجاد لغة تفاهم مشتركة وخلق حوار إيجابيّ يخدمان مصلحة الوطن والمواطن أولاً، والشأن المسيحيّ بخاصّة، فيما يخصّ هذا المكوّن الهشّ المقبل على عتبة الانقراض بسبب تناقصِه وتشرذمِه وعدم تماسكِه وتعصّب نفرٍ من روّادِه واضطراد ترك أبنائِه وطنَ الآباء والأجداد تحت أية ذريعة كانت.
شيءٌ من التاريخ:
بحسب معلوماتي البسيطة التي استقيتُها من كتب التاريخ، تكون الدولة الآشورية قد سقطت في العام 612 ق. م. على أيدي قبائل بابلية وميدية، بتدميرنينوى، عاصمتِها القوية، تلك المدينة الآشورية العظيمة التي بنت حضارة ماتزالُ آثارُها ماثلةً لغاية الساعة، والتي ينوي داعش تدميرَها مثلَ غيرِها من الرموز الحضارية والدينية في المدينة وما حواليها. وبذا، كان ختامُ تلك الإمبراطورية العظيمة التي حكمت المنطقة إلى جانب مثيلتِها وحليفتِها المصرية، واللتين كانتا تتنازعان سيادة العالم آنذاك. هنا ينتهي عهدُ الآشوريين كسلالة حاكمة في الكتب التاريخية، بفعل الانتشار الكبير لأقوامٍ آرامية (أجداد السريان) من المنطقة واستقرارِهم في بلاد آشور، بحسب ما تصفه وثائق وألواح طينية تصف شيئًا من العلاقات القائمة آنذاك بين الآراميين والآشوريين في السنوات الاخيرة من حكم الملك تغلاتفلاسرالاول (1115-1076). ومن هنا جاء دورُ الآراميين من بعدهم وتأثيرُهم في مسرى الأحداث بعد أن أصبحوا يشكلون الغالبية من السكان في الدولة الاشورية لأسبابٍ عديدة، منها المجاميع الكبيرة التي كان يستقدمُها ملوكُ الآشوريين في غزواتِهم ضدَّ دويلات الآراميين في المناطق المجاورة في عمليات سبي وأسر، حيث لمْ يكن بوسع قادة تلك الدويلات أن يشكلوا دولة عظمى، بل ظلّتْ تشكيلات صغيرة أومقاطعات متناثرة تدور في فلك بلاد آشور، كما يوردُه ألبير أبونا في مقالةٍ له (الآراميون والآرامية) المنشورة في مجـلة صـدى النهريــن – في العدد التاسع/ حزيران 2009. كما طغت لغتُهم أي"الآرامية"، لتصبح لغة العامة والدولة معًا، ما يعني ترسيخَهم لثقافة وحضارة اختصّوا بها في أوساط الدولة الآشورية المتهالكة آنذاك.
هذا شأن الحضارات والشعوب. حضاراتٌ سادت ثمّ بادت، لتليها أخرى أكثر قوّة ومنَعَة وشكيمة في الحكم والسياسة وتدبير الحياة اليومية. ولكنّ هذا لا يعني البتة، زوال شعوب تلك السلالات والحضارات. فهذه تندمج مع غيرها من الشعوب الجديدة القادمة وتنصهرُ فيها. وهذا ما يُجمعُ عليه الباحثون والدارسون والعقلاء،
أن لا وجود لعرقٍ بشريٍّ صافٍ وخالصٍ من دون مصاهرة وتزاوج وامتزاج مع الغير، بسبب الغزوات الكثيرة التي ضربت المنطقة عبر التاريخ البشري وما تلاها من سبيٍ وتهجيرٍ وخطف وقتلٍ ومصاهرةٍ، وكذلك بسبب ضرورات الحياة ومقتضياتِها بعد التطوّر المستمرّ والنموّ السكّاني الحاصل عبر الزمن. ومَن يقول بغير ذلك، فهو مغالِطٌ بوجه الحقيقة، إنسانيًا وعلميًا واجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًّا.
هذه المقدّمة، ليس المقصود بها التقليل من شأن عظمة دولة آشور، أو ردعُ رغبةِ بعض الأدعياء من التماهي والتفاخر بتلك العظمة والانتساب إليها حصرًا دون غيرِهم. فالتاريخ مزيجٌ متكاملٌ ومتواصلٌ من الحياة والاختلاط والامتزاج والمصاهرة والتزاوج بسبب الحروب والهجرات المتكرّرة والكوارث والتنقل وما سواها كما أوردنا، والتي اشتدّت مع تطوّر الزمان والاحتكام إلى المكان. من هنا، لا يمكن أن يكون الشعبُ الآشوري المعروف عبر التاريخ الذي سقطت مملكتُه العظيمة قد انتهى وانقرضَ تمامًا، كما يتصوّرُ البعض، وإلاّ لما كنّا نشهدُ سجالات وجدالات ونقاشات من أيِّ نوعٍ كانت بعد هذه القرون الطويلة على زوال تلك الإمبراطورية. وبالمفترَض، مثل غيرِه من الشعوب التي شاختْ وضعفتْ وتقهقرتْ لأسبابِها الداخلية، تراجعت شعوب آشور وامتزجت مع غيرها من الشعوب وخرجت بحللٍ كثيرة وشعوبٍ متعددة مختلطة مع تطوّر الزمن. وبما لا يقبلُ الشكّ، هناك بقايا للشعب الآشوريّ قد اندمجوا مع غيرِهم من الشعوب الغازية لمناطقِهم أو تلك المجاورة لهم بالنسبة لمَن اضطرَّ لترك الديار، تمامًا كما يحصل اليوم لشعوبٍ مماثلة، ومنها شعبنا المسيحي الذي ضاقَ به الوطن على وسعِه واضطرّ لطلب الأمان في بلدان الاغتراب والمجاهيل.
هكذا أيضًا، كان مصير الشعب الآشوريّ الذي سقطت ممالكُه الواحدة تلك الأخرى بفعل قيام حضارات أقوى منه. والحالُ هذه، يكون من حقّ جميع البشر الذين ينتمون إلى هذه البقعة من الأرض ويعيشون عليها، أن ينسبوا أنفسَهم إلى حضارة آشور أو غيرِها، وأن يتفاخروا بأسلافهم الجبابرة، كلّ على هواه وعلى وسع مدارِكه ورغباتِه. ومن ثمَّ لا يمكن لهذه الحقيقة، أو بالأحرى لبقايا هذه الحقيقة، أن تكونَ حكرًا على جماعةٍ دون غيرِها. فلماذا كلُّ هذه المكابرة وهذا العناد وهذا الموقف غير المتزن في ادّعاء بعض "الآثوريين" (من أتباع كنيسة المشرق بشقّيها) بكونِهم ورثة تلك الحضارات منسّبين أصلَهم إليها حصرًا، وفارضين هذا المفهوم على غيرِهم من إخوتِهم المسيحيين الآخرين المختلفين في بعض تفاصيل العقيدة اللاهوتية والرئاسة الكنسية؟ فهذه التسمية التي ألصقوها بهم ذاتيًا، أو بالأحرى، التي أقحموا بها أنفسَهم في غفلةٍ من الزمن، حديثة العهد من حيث المطالبة بها سياسيًا، ليست حكرًا على أتباع الكنيسة المشرقية القديمة بحدّ ذاتِها، بدليل أنّ الكلدان المنشقّين عنها رافضون لهذا الفعل المقحم. ثمّ ماذا سيزيد الهوية القومية أو حتى المسيحية من حقوقٍ وامتيازات إذا قلّ وجودُهم وتناقصوا وانحسروا وتشتتوا في أصقاعِ الأرض الواسعة؟ أليسَ للمواطن الذي ينتمي إلى بلاد وادي الرافدين وما بين النهرين من غير المسيحيين "الآثوريين"، حقٌ أن يدّعيَ هو الآخر نَسَبَه وانتماءَه إلى هذه أو تلك من الأقوام والحضارات وسلالات الأبطال الشجعان من القادة والملوك والحكّام والجنود والبشر؟ هذا إذا أدركنا، أنْ ليس في التفاخر بالسلف الأول من عظام القوم أيُّ تحسّسٍ من الانتساب إلى تلك الحضارات الراقية والقوية، إن حصلَ ذلك من دون عنادٍ وتكابر وتحامل وتجافي واستصغار للغير الذي لا يقتنع بالحجج والأماني والتمنيات! فلكلٍّ رأيُه وحرّيتُه في التعبير والإيمان والقناعة. وفي الحقيقة، إنَّ التاريخ لا يعود إلى الوراء، كما لا تنفعُ بطولات السلف ولا أصلُ الشعوب وفصلُها مهما كان، إزاء واقع اليوم وحركة الدهر السريعة المتغيّرة كالتسونامي. وهنا يكفي تذكر قول الشاعر زين الدين عمرالورد:
لاتقل: أصلي وفصلي أبداً إنما أصلُ الفتى ما قد حصل
بالمقابل، فللكلدان أيضًا "صولةٌ وصورةٌ" إزاء غرمائِهم من "الآثوريين" وغيرِهم، في مسألة الانتماء لحضارة الكلدانيين الغابرة. وكلا العنصران في الصورة والصولة، يقتضيان شيئًا من الفطنة والتروّي والتقدير للأمور أحيانًا كثيرة. فالطرفان يتربصُّ أحدُهما بالآخر، لكلّ شاردة وواردة، ويتقارعان أيٌّ أحقُّ وأقدمُ بهذه التسمية أو تلك. بل إنّ كلَّ طرفٍ، أصبح يتحسّسُ من أيّة كلمة تخرج عن هذا أو ذاك، بالرغم من الحالة المأساوية التي وصلَ إليها الشعب المسيحيّ عامةً في عقرِ دارهم، في نينوى المسلوبة والمظلومة والجريحة عبر التاريخ.
هناك من الباحثين والدارسين والمؤرخين والمتتبعين لمسيرة الشعوب والحضارات، ما يعتقدون أنّ الكلدان أو الكلديين، ينتسبون إلى شعوبٍ ترقى إلى الآراميّين أيضًا. وبالتالي فهم شعوبٌ سريانية لاحقة أيضًا، بعد اعتناق الآراميين للمسيحية من أجل تمييزهم عمّن بقي منهم على عبادة الأوثان والأصنام ومن أمثالِهم من "الكلديّين" ممّن اشتهروا بالتنجيم والعرافة والسحر على السواء، بالرغم من وجود اعتراضات في هذا المسند البحثيّ من البعض. كما أنّه، لا توجد علاقة بين مَن ينسبون اليوم أنفسَهم للكلدان مع تسمية الدولة الكلدانية التي أسسها زعيم قبيلة "كلدة" أو "كلدو" الآرامية "نابو بلاصر" وابنه "نبوخذ نصر"، أو بينها وبين تسمية أور الكلدانيين التي وردت في العهد القديم، ومنها خرج أبو الأنبياء إبراهيم، حيث يشيرُ العهدُ القديم إلى أصلِهم بتسمية "كسديم" أو "كشديم"، التي تحولت إلى "كلدو" بفعل تغيّر لغة الشعوب والتاريخ، كما نقرأ في كتيّبات التاريخ. واللفظتان تعنيان الرجال الأشداء أو الجبابرة أو المُنتصِرين. فيما نُوّهَ إليهم في بلاد اليونان وما جوارَها بالكلديّين أو الكلدان، وبالسريان أحيانًا أيضًا. وشاء البابا يوليوس الثالث إلحاق هذه التسمية التاريخية بالطائفة المتحولة من النسطورية (كنيسة المشرق القديمة) إلى الكثلكة في عهد البطريرك الجديد المنتخَب آنذاك، شمعون الثامن يوحنان سولاقا، بطريركًا على الكلدان في تموز 1553، لتفرقتهم عن أتباع كنيسة المشرق "النسطورية" التي انفصلوا عنها في حينِها.
أنا هنا، لستُ بصدد البحث عن تاريخ هؤلاء أو أولئك. فالنقاشات التي تُثارُ بين فترة وأخرى في هذا الصدد بهدف فرض آراء طرفٍ على آخر بغية الاستئثار بمنافع دنيوية ومادية أو مناصب هنا او هناك على الحساب العددّي لهذه الجماعة أو تلك في النظام السياسيّ المتهرّئ في البلاد أصلاً، لن تُجدي نفعًا.
ويكفي أن أشير إلى رأي المطران صليبا شمعون، المتمعّن في التاريخ القديم الذي يرى أنّ أصلَ الكلدان من نفس منبع الآراميين، حيث يقول في كتابه "الممالك الآرامية ص 136":
"أمّا كونُ قبيلة كلدو هي آرامية، فأمرٌ يكاد يُجمع عليه الباحثون، لاسيما التوراة التي تشير إلى آراميتها". وهذا ما أرمي إليه في محاجتي. وهذا ما يؤكّدُه أيضًا شيخ المؤرخين الآراميين، "ألبير أبونا" بكون أصل الجماعات المسيحية الشرقية من الشعوب الآرامية، والتي تسمّت فيما بعد بالسريان بعد تنصّر الكثير من شعوبهم بحسب البعض، ومنها اتخذوا طقوسًا من ذات اللغة ولكن بلهجاتٍ مختلفة، شرقية وغربية وبخطوط عديدة أيضًا، فيما المنبع واحد!!!
من هنا تكون الآرامية منتشرة حتى على العهد الآشوري. فالنصف الغربي من الإمبراطورية الاشورية، كان في الأصل آراميا. كما أنّ المراسلات الرسمية بين إمبراطوريات ذلك العصر كانت بالآرامية أيضًا. ومنها أنّ أركانَ الدولة الكلدانية القديمة كانوا يتحدثون الآرامية القديمة آنذاك. ومنهم أيضًا المسبيّون اليهود على عهد نبوخذ نصر. هؤلاء حينما عادوا إلى أورشليم بعد السبي، كانوا يتكلمون اللغة الآرامية وليس سواها. وهذه اللغة ارتبطت لاحقًا، باللغة السريانية نسبة للتسمية الجديدة للآراميين المتحوّلين إلى المسيحية لتمييزهم عن أصلهم الوثنيّ. والتسمية الأخيرة ماتزال ماثلة ومتداولة في أوساط المثقفين والباحثين والمستشرقين، حين الإشارة إليها بتسمية لغة آرامية أو سريانية. حتى على عهد النظام السابق في العراق، لم يصدر قانون الاعتراف بالناطقين باللغة "السريانية" عبثًا.
لذا، أرى أن الزوغان عن هذه التسمية وعدم النزوع إليها أو القبول بها من قبل الفريقين، أي بتسمية بقايا الشعب المسيحي ب"السريان"، نسبةً إلى اللغة المتداولة، ليسَ مقبولاً ولا منطقيًا. ومن ثمّ فإنَّ تحسّس البعض من اتخاذِها تسمية قومية من أجل تسهيل الأمور والحدّ من النزاعات والجدالات والمشاحنات، ليس فيه ولا قيراطٌ واحد من الحكمة والروية والاستعداد للقبول بها حلاًّ وسطًا بسبب سهولة مقبوليتِها واعتمادِها عالميًا، انتسابًا لتسمية اللغة التي نعتمدُها. فالشعوب تُسمى نسبةً للغة التي تتحدّث بها.
فإذا كنّا فعلاً جسدًا واحدًا وشعبًا واحدًا وحضارةً واحدة، كما يصرّح به الكثيرون، فلابدّ أن نكون برأيٍ واحد قبل أن نخسر هذه وتلك. وهذا لن يكون إلاّ بالتخلّي عن دعوات "الأشوَرة" و"الكلدنة" القائمة منذ السقوط الدراماتيكي في 2003 ولغاية الساعة، حتى بعد احتلالِ مناطقنا التاريخية في سهل نينوى من قبل الدواعش وأتباعِهم ومواليهم في المنطقة.
جدالات حامية لا تخلو من تعصّب
في ضوء تسارع الأحداث غير المبشرة بخير وإزاء المستقبل الغامض الذي يكتنف وجود بقايا الجماعة المسيحية بأصالتِها التي يعبّر عنها اليومَ ساسةُ البلاد وقادتُها في كلّ مناسبة، ولا يتورعون الإفصاحَ بها أمام مَن يهمُّهم أمرُها مِن رؤسائِها في الداخل ومحبيها والمشفقين عليها في الخارج، كان لابدّ من وقفة جريئة لتبيان الأولويات إزاء ما يجري.
فالسجالات الداخلية القائمة بين الأطراف المسيحية النشطة المختلفة، سواءً في الكتابات أو في مواقع التواصل الاجتماعي في الشأن الكنسيّ والقوميّ هذه الأيام، لا تخدم مصلحة هذا المكوّن وإدامة حياتِه وتثبيت هويتِه واستمرار وجودِه، طالما بقي التشرذم قائمًا وناصيةُ التحكّم بالمصير بيد الغير الغريب الذي يتحرّك ويوجّه وفق مصالِحه القومية على الأرض، ولا يهمّه مستقبلُهم ولا بقاؤُهم على المدى البعيد، إلاّ في الدعاية والإعلام من أجل كسب المزيد من التأييد والأموال والحشد لصالحِه.
هذه هي الفرصة القائمة لإثبات التسامي فوق المصالح الذاتية والطائفية الضيّقة وإثبات الاستقلالية في الرأي وفي المطالب وفق ميزان المواطنة الذي يقرّه الدستور. والأخير خيرُ شافعٍ للجميع، إن عُقد العزمُ وشاءت الإرادات واتفق المختلفون على وحدة المطالب وتوحيد الخطاب للوقوف بوجه مَن يعرقلُ ويحجب ويعترض في أسفل دهاليز السياسة. فالأولوية اليوم بالنسبة للمسيحيين كأقلّية مهدَّدة بالانقراض، هي من دون شكّ
"للهوية المسيحية" التي تصارع من أجل البقاء في أرض الأنبياء والرسل والقديسين والديارات والكنائس، قبل التشبث بأية مصلحة أخرى، ومنها مسألة التسميات القومية التي طفت مؤخرًا ثانيةً على الأرض، مع انطلاقة مبادرة الكنيسة الكلدانية بتأسيس الرابطة الكلدانية تحت ضغط أتباع الكنيسة والظروف الحرجة، الداخلية منها والإدارية والتنظيمية التي تمرُّ بها اليوم من دون حسد!
وهذه فرصة لتذكير رئيس كنيسة العراق، بشخص البطريرك الكلداني لويس ساكو، الذي بيدِه تحريك ملف تشكيل "مجلس سياسيّ مسيحيّ" يتولى الدفاع والمطالبة بحقوق أبناء هذا المكوّن وتثبيت وجودِه الوطني أولاً، كمكوّن أصيل فعلاً وتطبيقًا، ووضع سكّة المواطنة للجميع على الطريق الصحيح، حيث لن يصحّ إلاّ الصحيح إذا عقدنا العزم لوضع حدٍّ للسجالات والإخفاقات المتكررة والجهود الضائعة سدىً بين الأحزاب المسيحية المتهالكة والجهات المتصارعة بسبب التسمية منذ السقوط في 2003. فرعاية الكنيسة ستبقى الضامن الأول للوجود المسيحي في البلاد، كما أثبتت ذلك في الأزمة الأخيرة المستفحلة، باستنهاضِها للهمم وتسخير قدراتِها لتقديم العون السخيّ لجميع النازحين والمحتاجين العراقيين دون تمييز.
فالكنيسة وحدها، هي التي جمعت أبناءَها وما سواهُهم من العراقيين، من كلّ الطوائف والملل تحت كنفِها تمامًا كما تجمع الدجاجة فراخَها تحت جناحيها. هي كانت وماتزالُ الأمَّ الحنون للجميع. والحقلُ الواسعُ كفيلٌ بمشاهدة هذه التجربة.
من هنا، نأمل أن تجمع الرابطة الكلدانية المرتقبة كلمةَ أبناء هذه الجماعة كي تصبَّ هي الأخرى ضمن تطلّعات كنيسة العراق لتشكيل "المجلس السياسيّ" المنتظَر، الجامع جميعَ المسيحيّين بطوائفهم المتعددة، وبغضّ النظر عن الاختلاف في الرؤى في الشأن القوميّ الذي سيظلُّ قائمًا بوجود جهاتٍ انكفائية متعصّبة لا تقبل بحقّ الغير في اختيار ما يراهُ موائمًا لهوية ملّتِه وكنيستِه وتاريخِه وتراثِه. فالمسيحية في العراق والمنطقة، لا يمكن اختزالُها حصرًا، بالكنائس الكلدانية والآثورية والسريانية، وإهمال ما سواها من القائم على الأرض من ابناء الكنائس الأخرى.
هشاشة في الفكر والرؤية
بسبب ما يجري محليًا ووطنيًا وإقليميًا ودوليًا، تطلعُ علينا بين فترة وأخرى وفي هذه الأيام بالذات، أفكارٌ جديدة "قديمة"، يستحدثُها شخوصُها ويستعرضُها كتّابُها تحت مسميات عديدة، فاتحين النارَ في جزئياتٍ منها على مَن يُعدّون خصومًا تقليديّين في مسيرة هذه الأحداث. على أرض الواقع، وبعد فترة من احتلال المناطق المسيحية في سهل نينوى، التي كانت وديعةً بعهدة سلطة الإقليم، نشطَ مؤخرًا نفرٌ ممّن كانوا سببًا في إعاقة استقلالية هذه المناطق بسبب تبعيتِهم لأحزاب متنفذة في الإقليم من دون وجه حقّ. وكأنّي بهؤلاء، يسعون مجدَّدًا لاستباق حجوزاتِهم لاحتلال مواقع في جنّة المحافظة الجديدة التي شاع الحديث عنها في سهل نينوى والتي استولتْ على عقول وكيانات وأفكار هذه الشخوص الحالمة، تمامًا مثل سياسيّينا سواء في المركز أو في الإقليم. فبعد انخراط نفرٍ من أبناء هذا المكوّن إلى جانب مكوّنات أخرى، في معسكرات للتدريب تهدف لطرد الدواعش والتخليص من شرورِهم، شرع ممثلو أحزاب مسيحية هزيلة معروفة الولاء والتبعية لأحزاب كردستان في أغلبِها ومعها أطراف أخرى ذات تبعية معروفة، بالتهافت والجري السريع نحو هذه المعسكرات بشيْ من النشوة والمكابرة وبشكلٍ يوهمُ به هؤلاء التابعون مجتمعاتِهم بضلوعِهم ومسؤوليتِهم ومساهمتهم وإشرافِهم على تشكيل مثل هذه القوّة التي ستحققُ لهم إنجازَ مشروع هذه المحافظة الموعودة. فيما الوقائع أثبتت أنّ نفرًا منهم يتحمّلُ جزءًا من مسؤولية ضياعِها أصلاً وتسليمها للقوى الظلامية بين ليلةٍ وضحاها، بسبب الاستمرار في الوهم بقدرة سلطة الإقليم على حمايتِها والدفاع عنها بالدم، حسب رواية رؤساء كنائس هذه المناطق بموجب وعود تلقّوها حصرًا وتوكيدًا. فكلُّنا نعلم، أنَّ تسليم مناطق السهل، تمامًا مثل الموصل وغيرها من البلدات والقرى التابعة لها، قد تمّ بالاشتراك مع أدوات رسمية حكومية وعسكرية من المركز والإقليم ضمن صفقة سياسية.
في الواقع، في بعضِ التصريحات والتسريبات الصادرة من جهاتٍ مختلفة، نشمُّ طيبَ أملٍ وغيثَ رجاء من الواعين في الفكر والتحليل ومن الصادقين في معالجة ما حصل من تهجيرٍ قسريٍّ بسبب تخلّي الإقليم عن المناطق التي كانت تحت سيطرتهم منذ السقوط في 2003. وهؤلاء قليلون مقارنةً بحشود منتفعة من المشكلة. إلاّ أنَّ جهودَ هؤلاء الحريصين على البيت العراقي أولاً والشأن المسيحي ثانيًا، تعكسُ الروحَ الإيجابية المتفائلة عند مروّجيها. ونحن ندعمُها ونشجّعُ أمثالَها ونشدُّ من أزرِها، بعكس أخرى غيرِها محبطة ومثبّطة للعزائم بسبب الريح الصفراء التي بداخلِها، لأنها تنفثُ سمومًا قاتلة لا أملَ منها وفيها ولها وبها البتة. هذه النماذج الأخيرة المنتفعة والتابعة في سلوكِها اليومي للغير والمعطِّلة لإثبات الذات، كانوا وسيبقون خدّاماً خانعين وتابعين أذلاّء للغريب القادم من خارج بلداتِهم التاريخية ومجتمعاتِهم الكنسية، لأنّهم ببساطة يفتقرون إلى الرؤية السديدة وبعد النظر، والأكثر من هذا وذاك، إلى الاستقلالية في الرأي وفي القرار بسبب محدودية ثقافتهم التي لا تعدو كونها رغوة طافية على سطح بركانٍ متفجّرٍ في أيّ وقت. وفي هذه الأخيرة، يبدو أنّ أمثالَ هذه الطبقة الفضفاضة الطافية، لم يتعلّموا الدروس والعبر من الماضي، البعيد والقريب والقائم الحاليّ على السواء، بالرغم من المصائب والشدائد والتجارب السلبية القاسية التي مرَّ بها أقرباؤُهم وأهلُهم وعائلاتُهم عبر الزمن والمكان، آنفًا واليوم.
من حقّ الإنسان الحريص في نينوى بالذات، أن يتساءل اليوم عن سبب هذا التهافت الجديد من ذات الأدوات التي أثبتت إخفاقَها وعدم أمانتِها، بعد كلّ المستجدّات، منذ احتلال مناطق واسعة فيها وطرد السكان الآمنين من بلداتهم وخسران أملاكهم ومساكنهم وأراضيهم، وجلُّهم من أبناء الأقليات المستضعفة التي لا قوات مدربة لها ولا ميليشيات. أينَ كان هؤلاء مِن أمر تدريب أبناء مناطقهم ومكوّناتِهم المهمّشة طيلة الفترة المنصرمة منذ اشتداد وطأة الأحداث عليهم؟ ولماذا وقفوا مع المعترضين والرافضين لتشكيل قواتٍ محلية مدرَّبة تدريبًا وطنيا ضمن الجهد الدفاعيّ الوطنيّ كي تساهم في الدفاع عنها وقتَ الشدّة؟ ألا تعكس اعتراضاتُهم بالأمس على تشكيل مثل تلك القوات آنذاكَ ومنذ المطالبة بها في عام 2007، قصرَ نظر القائمين على مصالح تلك المناطق وهم يقدّمون الولاء الواجب للغير؟ واليوم، بعد السماح بتشكيل هذه القوات، أليسَ من المخجل أن ترتبطَ هذه المناطق ثانية بما كانت تُسمّى ب"الحراسات" وراعيها "المجلس الشعبيّ القطاريّ"، التي يشرف عليها أحد الأحزاب الكردستانية، وهو المتّهم ببيعها والتخلّي عنها بعد الانسحاب المخجل منها عقب أوامر مستلمة من قوى الشرّ في أمريكا؟؟؟
إنه لَمِن المعيب أن يعود المنتفعون وذاتُ الأدوات السابقة المنفذة للأجندة الكردية إلى ذات الحالة بحلّة جديدة ويستعيدوا ذات الدور المقرف. كما ليسَ من المقبول من الرئاسات الدينية لجميع المكوّنات، ولاسيّما المسيحية منها، وهي الأكثر فاعلية وحركة، أن تسمحَ بمثل هذه الترتيبات بحجة التبعية المالية الخاصة للحراسات القديمة المرتبطة بهيئة شؤون المسيحيين، لميزانية الإقليم خارجَ سيطرة الحكومة المركزية، وغدقِ الأولى للأموال على هذه الأدوات وتحرّكاتِها وأنشطتِها خارج الإطار الوطنيّ لحكومة المركز. والآن نحن نعتقد، أنّه بعد خضوع هذه القوة الجديدة لموافقة الحكومة الاتحادية وربطِها بجهود الحشد الوطني، ما يعني اعتمادها ضمن قوات الدفاع الوطنية، لم يعدْ بعدُ من مبرّر أن ترتبط كما في سابق عهدِها بما يُسمّى ب"المجلس الشعبيّ" التابع للديمقراطيّ الكردستانيّ لحمًا وشحمًا، فيما يخصّ مناطق المسيحيين. فقد آن الأوان لسلك طريق أكثر أمنًا وضمانًا بالتمسك بالثوابت الوطنية بدل الامساك بجلباب الإقليم الذي فُقدت به الثقة ولم يعد ضامنًا وكفيلاً لمصالح الأقليات عمومًا، بعد المذلّة التي اختبروها على أياديه وأيادي أدواتِه من أمثال أتباع "المجلس الشعبي القطاريّ" الذي أوهمَ الناسَ بالحرص الكاذب بقدومِه كالذئب بلباس الحملان! ومثلُه تقف مجموعة الأحزاب المنفّذة لأجندتِه المشكوك في حرصِها على الشأن المسيحيّ. حتى "زوعا" وهي أكثر الأحزاب المسيحية استقلالية لمْ تستطع إظهارَ حسن النوايا وتفسيرَ ما حصل والخروج من عموم الحدث ببراءة!
في اعتقادي، لو تنبه العراقيون جيدًا، للحال الذي وصلوا إليه بعد احداث 2003، لأيقنوا أنّ كلَّ شرٍّ أصابهم، كان بفعل قوى الشرّ المتمثلة بسيدة القطب الواحد أميركا،صاحبة الذراع الأكبر بتصفية الشعوب المستضعفة، ولاسيّما الصغيرة منها، وإذلالها خدمةً لمصالحها القومية الأنانية. فلا شيءَ اليوم، يتحرّك أو يسير، يرتفع أو ينزل من دون علمِها والاستئذان منها. واستنادُنا في ذلك، ما شهده العراقيون من تفرقة وتشظية وانقسامات، ليس بين شركاء الوطن الواحد فحسب، بل في داخل الكيانات والمذاهب والأعراق، بسبب سرطان الطائفية والمذهبية الذي زرعته هذه القوة العظمى الغاشمة بلا حياء ولا أخلاقية في التعامل مع أبناء الوطن الواحد بتنوّعهم الخلاّق، إلاّ بما يخدمُ مصالحَها القومية وعملاءَها وأدواتِها في المنطقة. لقد كان الأجدر بالأدوات المسيحية المنتفعة التابعة والمنفذة لأجندة الإقليم بسبب ضيق أفقها في الرؤية والفكر في المناطق المنتزعة المحتلة حاليًا، أن تتآزرَ مع أصحاب النيات الحسنة الوطنية الصادقة والمثقفين وأصحاب الخبرة والرؤية البعيدة، من أجل إيقاف المدّ التقسيميّ للبلاد، الذي لم نحصد من ورائِه غيرَ الخذلان والمآسي والويلات، وليسَ الاصطفاف في طابور التأييد الأعمى لأجندة الإقليم. وهذه هي النتيجة، بعد السماح بدوس أرض العراق من قبل عصابات التنظيمات التكفيرية الداعشية التي زرعتها قوى الاستكبار العالمي بالتشارك مع زعماء وسياسيين في الداخل، تمامًا كما زرعت بذور الفتنة عبرَ تنظيمات طالبان والقاعدة وبوكو حرام، وما سبقها ويليها في مناطق أخرى من أجل بسط نفوذها بوسائل التقسيم الفاعلة.
إن المسؤولية التاريخية تحتّمُ تحكيم الضمير والاسترشاد برؤية بعيدة النظر تضع الميزان الوطني قبل أية مصلحة أخرى. فالوطن هو الباقي، وما سواه زَبَدٌ طافٍ وفرقعاتٌ خاوية، سرعان ما تتلاشى حينما يتحكمُ العقل بأصول اللعبة ويعود كفّ الميزان لصالح الوطن الواحد الذي لا يقبل القسمة، مهما حاول ضعافُ النفوس النيلَ من قدراتِه وتثبيط عزم أبنائِه عبر ولاءات مدفوعة الثمن، مشكوكٍ فيها وغير محمودة. فهذه تصبُّ دومًا في خانة الغريب الطامع وأجنداتِه التخريبية محدودة الرؤية...
يتبــــــــــــــع