ديوان أوقاف المسيحيين والديانات الاخرى

كتابات عامة

                                                                                                                                                    

 

اتصلوا بنا

أرشيف الأخبار

مجلة آفاق مندائية

مجلة صدى النهرين

رئاسة الديوان

من نحن

الرئيسية

 

 

 

لكي ياتي عليكم كلُّ دم سفك على الأرض، من دم هابيل الصديق

إلى دم زكريا بن بَرَخِيّا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح.

(مت23: 34 و 35)

د. فادي فصيح

 17 تشرين الثاني 2010

        

 

     أيها الأحباء:

     تعيش الكنيسة المسيحية في العراق هذه الأيام أحداثاً جساماً، توّجت المآسي والضيقات التي مرّت بها خلال السنوات السبع الماضية، بعد احتلال العراق، ألا وهي مذبحة كنيسة سيدة النجاة في بغداد، أثناء قداس المساء ليوم الأحد 31/10/ 2010، والتي فقدت فيها الكنيسة المقدسة نخبة جديدة من أبنائها المؤمنين البررة، وهم يشتركون بالقداس الإلهي، ويصلون من أجل السلام والمحبة والتآخي في وطننا الجريح العراق، استشهدوا مع كاهنين ورعين، شابين خادمين لمذبح الرب، وديعين عزيزين، سفكت دماؤهم الزكية مثل الأغنام المعدة للذبح، وكما سبق وأنبأ المرنم الإلهي في سفر المزامير قائلاً: لأننا من أجلك نمات اليوم كله، قد حسبنا مثل غنمٍ للذبح (مز44: 22).

     وبعد حدوث هذه المذبحة المروعة في الكنيسة، وما تلاها من استهداف دور المؤمنين المسيحيين في مناطق مختلفة من العراق، تعالت أصوات الإستنكار من مختلف الجهات ومختلف الأديان والتوجهات، وفي مختلف وسائل الإعلام، وعبّر الكثيرون في أرجاء الأرض عن امتعاضهم واستهجانهم لهذه الفعلة غير الإنسانية؛ ونحن كمؤمنين مسيحيين نعيش في هذا البلد ونعاني ذات الضيقات والآلام والتحديات، في تأملنا لما جرى لإخوتنا المؤمنين في كنيسة سيدة النجاة، هزتنا الأحداث ولطمتنا الفاجعة، ليصرخ كلُّ منا مع أيوب الصابر في محنته حين قال: احمرّ وجهي من البكاء، وعلى هُدبي ظلُّ الموت، مع أنه لا ظُلم في يدي وصلاتي خالصةٌ (أي16: 16 و17).

     لا ظُلم في يدي وصلاتي خالصة:  وهذا ما كان عليه كلُّ الذين تواجدوا في الكنيسة من المؤمنين أثناء تلك المحنة الصعبة، كلهم كانوا أبرياء مسالمين، لا يعرفون ظلماً، ولا تلطخت أيديهم بنجاسات أو شر، كانوا يصلون بانسحاق قلبٍ وانكسار روحي، صلاة خالصة إلى الله خالق العالم، بوداعة وتواضع ومحبة، يصلون للسلام والمحبة والتآخي بين العباد من خلقهم الله، ومع ذلك طالتهم يد الغدر وآلة الشرِّ، ليستشهد منهم من يستشهد، ويجرح الآخرون، وليعيش من بقي حياً منهم آلاماً نفسية عصيبة.

     وبينما يتكلم ويناقش ويعبر الكثيرون عن مشاعرهم تجاه هذه المذبحة الرهيبة بمعطيات دنيوية وعواطف إنسانية متنوعة المآرب والجوانب، نتأمل نحن المؤمنون ما حدث بمنظار إيماني روحي، لنستعرض خلاله مسيرة العلاقة بين الله والإنسان المؤمن ومنذ فجر الإنسانية؛ فخلال الساعات الرهيبة التي مرّت على المؤمنين في كنيسة سيدة النجاة (من الساعة الخامسة عصراً وحتى الحادية عشرة ليلا)، تجلت مسيرة حياة المؤمنين مع الله بكل أحداثها وضيقاتها ومعانيها، وكأن هذه الساعات الست اختزلت واختصرت كل المآسي والمعاناة التي عاشتها الكنيسة خلال الأجيال من آدم إلى يومنا هذا، فلنتأمل:

     قديماً هدر دم هابيل الصديق الطاهر بيد أخيه الإنسان لا لسبب إلا لأنه كان يسلك بمخافة الرب، واليوم شهداء كنيسة سيدة النجاة هدرت دماؤهم الطاهرة لا لسبب إلا لأنهم كانوا يعبدون الله بمخافة ويصلون للسلام والمحبة والتآخي بين الشعوب؛ استشهد هابيل لأنه قدم قربانا مقبولاً لله، فأصبح هو أيضا قرباناً لله مقبولاً، وشهداء كنيسة سيدة النجاة استشهدوا لأنهم كانوا يشتركون بالقداس الإلهي، أي القربان الإلهي، فأصبحوا هم أيضاً قرابين حية ومقبولة لله الآب الضابط الكل وخالق الجميع.  

     قديماً الكاهن زكريا بن يهوياداع من نسل بّرّخِيا قتل رجماً بأمر الملك يهوآش في دار بيت الرب لأنه أنّب الشعب بسبب ابتعادهم عن الله وانجرافهم إلى عبادة الأصنام، قتل رجماً  وهو يرفع شكواه إلى الرب (2أخ24: 17 – 22)، واليوم كاهنين ورعين، كانا يعظان المؤمنين سلاماً ومحبة وعبادة صادقة، يقتلان داخل الكنيسة، بل بين الهيكل والمذبح تماماً كالكاهن زكريا، هما الأب ثائر والأب وسيم، استشهدا وهما يصرخان إلى الرب ويتقدمان ليكونا الذبيحة عن الشعب المصلي، إذ يطلبان من القتلة أن لا يمسوا الشعب المؤمن بأذى.  

     ما أشنع ما حدث، وما أشد عقاب الرب الذي ينتقم للمظلومين الأبرياء الذين قتلوا من أجل كلمة الله ومن أجل الشهادة التي كانت عندهم (رؤ6: 9 – 11)، لي الإنتقام، أنا أجازي يقول الرب (عب10: 30)، فقد أشار الرب يسوع إلى دم هابيل ودم الكاهن زكريا بن برخيا معلناً للشعب العاصي والمتمرد على الله أن سوف يأتي عليهم كل دم زكي سفك على الأرض من دم هابيل الصديق إلى دم زكريّا بن برَخِيّا الذي قتلوه بين الهيكل والمذبح (مت23: 34 و 35)، ودماء شهدائنا في كنيسة سيدة النجاة تصرخ إلى الرب يسوع، وتُشمل بغضب الرب على المعتدين الظالمين.

     أجل أيها الأحباء، فالساعات الست العصيبة في كنيسة سيدة النجاة مساء يوم الأحد 31/ 10/ 2010م.، أعادت إلى الأذهان كل تاريخ الكنيسة مستعرضاً في نفوس المؤمنين الصابرين، وكأننا اليوم في المسرح الروماني الكبير (مدرج فلافيانوس الذي عُرف باسم الكولوسيوم ”Colloseum ” فيما بعد) في العشرين من شهر كانون الأول سنة 107م. نشهد استشهاد القديس الجليل مار إغناطيوس النوراني ثالث بطاركة أنطاكية، ومن معه من مؤمنين مسيحيين حكمت السلطات الرومانية عليهم بالموت بطريقة شنيعة جدا وهي أن يطرحوا للوحوش الكاسرة في الساحة، فتمزق أجسادهم الطاهرة، لمجرد أنهم مسيحيون يعبدون ربّ السماء بأمانه، فاستشهدوا وهم يصلون ويمجدون اسم الرب، بل ويشجعون خراف المسيح الوديعة على الثبات في الأيمان، ويحدث كل ذلك أمام مشهد من الجموع الغفيرة التي لا تعي معنى الإنسانية والمتجاهلة لمخافة الله، وهي تتلذذ وتبتهج بهذه المناظر المروعة؛ وهذا تماما ما جرى اليوم في كنيسة سيدة النجاة، حيث يخطط المتسلطون على مقدرات شعبنا العراقي في ظروف الإحتلال العصيبة لهذه المذبحة المروعة، مستهدفين خاصة شعبنا المسيحي المسالم، فيقدمون العشرات من خراف المسيح الوديعة في كنيسة سيدة النجاة لأيدي الشر من المأجورين الذين يخدمون الأسياد بجهل مطبق وبمسميات مختلفة، ليمزقوا الأجساد البريئة، أجنة في الأرحام وأطفالاً ونساءً وشباباً وشيوخاً، بطريقة وحشية هي أشنع بكثير مما يفعله وحوش الغاب، أمام مرأى ومسمع المتسلطين على مقدرات الوطن من قوات الإحتلال والمسؤولين الحاليين في الحكومة العراقية، وتراخي ولا مبالاة  الجموع الغفيرة من أعداد الجهات الأمنية والمكلفين بحماية المواطنين المسالمين العزّل.

     وما جرى في كنيسة سيدة النجاة عاد بنا بالذاكرة إلى ساحة العاصمة الفارسية كرخ ديلان في الأهواز يوم الجمعة العظيمة المصادف السادس من شهر نيسان سنة 341م. لنشهد استشهاد جاثليق المشرق مار شمعون برصباعي وخمسة أساقفة أجلاء ومئات الكهنة والشمامسة الأبرياء، وهم يُذبحون بأمر الملك الفارسي شابور الثاني خلال الإضطهاد الأربعيني على كنيسة المشرق (339 – 379م)، تماما كما استشهد المؤمنون في كنيسة سيدة النجاة بمخططات مروجي الفتن وتجار الحروب والمتعطشين إلى الدماء من المتسلطين على رقاب الشعوب الآمنة الوديعة؛ والمفارقة هي أن مقر كرسي مار شمعون برصباعي لم يكن يبعد إلا كيلومترات معدودة عن كنيسة سيدة النجاة اليوم، حيث كان مقره الأسقفي في كنيسة كوخي / المدائن، أي سلمان باك الحالية قرب بغداد.

     وهكذا خلال حقب التاريخ المتلاحقة، يتفنن أبناء العالم ويتخبطون في جهالاتهم كالحيوانات الضارية وهم ينهشون ويفتكون بخراف المسيح الوديعة، فاستشهاد مار اسطيفانوس رجماً، واستشهدا معظم الرسل في فجر المسيحية، ومجازر الإضطهادات الرومانية العشرة ومذابح الإضطهاد الفارسي الأربعيني ومذابح السيفو (الإبادة العرقية في بلاد الأناظول مع بداية القرن العشرين)، وغيرها في بقاع العالم، تتكرر اليوم وتنفذ مشاهدها من جديد، فتختزل معالمها الإجرامية بمذبحة كنيسة سيدة النجاة في بغداد، وفي كل الأحوال الضحية هم المؤمنون المسيحيون المسالمون المتواضعون المُحبون، أغنام الكنيسة الودعاء الذين ينحرون كل يوم لا لسبب إلا لأنهم أبرياء يعبدون الله بمحبة باذلة اقتداء بالفادي يسوع، ترتفع صرخة دماءِهم نحو السماء مرددة بفرح روحي: لأننا من أجلك نمات اليوم كله، قد حسبنا مثل غنمٍ للذبح (مز44: 22)، تراق دماؤهم الزكية فتروي تراب الأرض، لينبت الأيمان من جديد بأغصانٍ يانعة خضراء جديدة، تمجد اسم الرب في الكنيسة المجاهدة على الأرض.

     وتدمير بناية كنيسة سيدة النجاة في بغداد بالتفجيرات التي طالتها وهي تمزق أجساد المؤمنين إلى أشلاء، يختزل التاريخ أيضاً مذكرا بآلاف الكنائس والأديرة التي دمّرت على مرّ العصور بحقدٍ منذ فجر المسيحية وفي مختلف أرجاء العالم، فهدمت بناياتها وحطمت مذابحها، وبعثرت رفات القديسين فيها، وأحرقت كتبها الطقسية ومحتوياتها، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، في بلاد الشام ومصر (حيث دمرت ثلاثون ألف كنيسة مثلاً خلال ثلاث سنوات من ولاية الحاكم بأمر الله !!)، وفي العراق (كمثال الكنيسة الخضراء في تكريت وكنيسة مار توما في جانب الكرخ/ بغداد)، وفي بلاد الأناظول وأرمينيا خلال أحداث السيفو، وغيرها من الكنائس والأديرة التي لا حصر لها، دمرت لا لسبب إلا لأنها بيوتاً لله، يتمجد في أرجائها اسم الله، وتفوح منها رائحة المسيح العطرة بتراتيل روحية وأناشيد ملائكية وصلوات وطلبات إيمانية كلها محبة ووداعة وتواضع وخدمة صادقة، ما غايتها إلا المحبة والسلام، إذ أنها بيوت رب السلام والمحبة، ومن لا يحب لا يعرف الله، لأن الله محبة (1يو4: 8)، فبيوت المحبة والسلام يستهدفها ويدمرها دائما من لا يعرفون الله، ولا يعرفون معنى المحبة، بل يحاولون دائما تمزيق المحبة وسحق السلام في العالم؛ وها هم أحفاد أولئك يدمرون اليوم كنيسة سيدة النجاة بمحتوياتها بعد أن قتلوا المصلين فيها.

     وحين نعيش هذه الضيقة العظيمة أيها الأحباء، نستذكر إيمان نبي الله أليشع وهو يقول لخادمه جيحزي الذي كان خائفا من جيش آرام المحيط بالمدينة التي كانا فيها، فاستنجد بسيده أليشع وهو يصرخ:  آه يا سيدي! كيف نعمل؟، فيقول له أليشع: لا تخف، لأن الذين معنا أكثر من الذين معهم (2مل6: 15 و 16)، ويصلي أليشع إلى الله قائلاً: يا ربّ، افتح عينيه فيبصر، فاستجاب الرب وأبصر جيحزي خيلا ومركبات نار حول أليشع (2مل6: 17)، والآن نصرخ نحن إلى الرب أن يفتح عيوننا بالروح لنبصر ما حدث في كنيسة سيدة النجاة خلال تلك المحنة؛ نغلق عيوننا عن العالم، لتنفتح عيوننا بالروح ونرى... وما أجمل ما نرى، وما أروع ما ننظر:

     قديماً رأى يعقوب في الحلم سلّماً منصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء، وهوذا ملائكة الله صاعدة ونازلة عليها، وهوذا الرب واقفٌ عليها(تك28: 12 و 13)، فاستيقظ يعقوب من نومه قائلاً: ما أرهب هذا المكان! ما هذا إلا بيت الله، وهذا باب السماء! (تك28: 17)؛ والرب يسوع في حديثه مع نثنائيل بعد أن اعترف الأخير أن يسوع هو ابن الله، يقول له: الحق الحق أقول لكم: من الآن ترون السماء مفتوحة، وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان (يو1: 49 – 51)، وابن الإنسان هو ابن الله المتجسد يسوع المسيح الذي هو الرأس في الكنيسة والمؤمنون به  هم أعضاء الجسد؛ وما أعظمه من تأمل يتحقق اليوم في مذبحة كنيسة سيدة النجاة في بغداد:

     فخلال الساعات الست للملحمة الحمراة في الكنيسة، نرى بعين الروح السماء مفتوحة على الأرض، إذ كان المؤمنون يشتركون بالقداس الإلهي (وهو انفتاح لأبواب السماء على الأرض)، وسلماً منصوبة بين كنيسة سيدة النجاة على الأرض والسماء، فقد فتحت أبواب هيكل خيمة الشهادة في السماء لإستقبال المنتصرين الجدد من أبناء الكنيسة المجاهدة على الأرض (رؤ15: 5)، القادمين من الضيقة العظمى (رؤ7: 14)، وها ملائكة السماء يرفرفون بتسارع نازلين صاعدين بين الكنيسة والسماء، ينزلون وهم يحملون أكاليل النصر والغلبة على العالم، يتوجون بها شهداء الكنيسة الأبرار ويصحبون أرواحهم المتسربلة بالمجد إلى السماء؛ وعلى رأس السلم يقف يسوع ابن الإنسان وقد مد ذراعيه كما امتدت على الصليب، ليحتضن الشهداء الذين شهدوا بالدم لإسمه القدوس على الأرض، يستقبلهم استقبال المنتصرين الضافرين، وقد تسربلوا بثياب بيض وفي أيديهم سعف النخل (رؤ7: 9)، فقد غسلوا ثيابهم وبيضوها بدم الحمل، ليقتادهم الرب إلى ينابيع ماء حية ويمسح كل دمعةٍ من عيونهم (رؤ7: 14 – 17)؛ وإلى جانب يسوع تقف السيدة العذراء أم الأحزان تذرف دموعا ساخنة وقد حملت الطفلة ساندرو (ابن الأربعة أشهر) والتي استشهدت في كنيسة سيدة النجاة ايضاً، وإلى جانبها يقف الطفل الشهيد آدم (ابن الثلاث سنوات)، وقد ضمه إليه الشهيد مار قرياقوس بن يوليطي (الشهيد بعمر الثلاث سنوات)؛ ويحيط بهذا الموكب السماوي من جانب الرسل والشهداء والقديسون وهم يرددون مع الملائكة: الخلاص لإلهنا الجالس على العرش، وللحمل (رؤ7: 10)، ومن الجانب الآخر يقف الشهداء من خدام المذبح وبينهم سيدنا المطران فرج رحو والأب بولس اسكندر والأب رغيد كنى والأب يوسف عادل عبودي والشيخ منذر السقا، وهم يحتفون بالأبوين ثائر سعد الله ووسيم القس بطرس هاتفين: طوبى لمن غلب بدم الحمل، طوبى لمن لم يحبوا حياتهم حتى الموت (رؤ12: 11)، والأجناد السماوية تصطف بمواكب نورانية في استقبال الكوكبة الجديدة من الشهداء، الذين انظموا إلى الكنيسة المنتصرة حول عرش السماء وهم يهتفون بترانيم سماوية الأنغام : نصيبي هو الربّ قالت نفسي، طيّب هو الربّ للذين يترجونه، للنفس التي تطلبه (مراثي3: 24 و 25)؛ فأي مشهد سماوي هذا !! وأية رؤيا إيمانية هذه !! نعيش معها الصليب من جديد، الصليب الحي الذي يغلب، فالصليب هو السلم الذي ينقل إلى السماء، والصليب هو الطريق إلى الملكوت، وها صليب كبير قد ارتفع اليوم ليجعل من كنيسة سيدة النجاة جلجثة القرن الحادي والعشرين.  

     افرحي وتهللي يا كنيسة العراق، ابتهجي وسبّحي الرب، فقد اختصرت بجهادك الأيماني وشهادتك الصادقة بالدم لإسم المسيح كل تاريخ الكنيسة، بسنوات سبع عجاف تمرين بها في مطلع القرن الحادي والعشرين، بل بساعات معدودات عاشتها كنيسة سيدة النجاة مساء يوم الأحد 31/10/2010؛ افرحي يا كنيسة العراق، فقد أثبتَ أبناؤك البررة اليوم، أنهم أحفاد أولئك الأبطال الميامين، مجاهدي الأيمان القويم وعلى مر السنين منذ نشأة الكنيسة، وبمختلف الأعمار، من جنين لا يزال في رحم أمه وحتى المتقدم بالعمر، ها هم يشهدون اليوم بالدم، فيستشهدون من أجل اسم المسيح، وهم أبرياء وأنقياء في تصرفاتهم، وودعاء في تعاملهم، وطاهرة أيديهم، وصادقين في صلواتهم.

     طوباكم يا شهداء الكنيسة الأبرار، لأنكم استطعتم أن تشهدوا ليسوع بالدم، وهي أسمى درجات الشهادة، طوباكم فقد تطهرتم بدمائكم الطاهرة، وغسلت ثيابكم بدم الحمل الذي ذبح من أجل البشرية كلها على الصليب، فوصلتم إلى ربكم أطهار أنقياء، طوباكم يا من استطعتم بصلواتكم في كنيسة سيدة النجاة، التي كنتم ترفعونها إلى السماء، أن ترتفعوا أنتم إلى السماء وتنالوا ما لم تر عينٌ، ولم تسمع أذنٌ، ولم يخطر على بالِ إنسان، ما أعدّه الله للذين يحبونه (1كو2: 9)،  طوباكم وأنتم تقفون الآن تحت المذبح أمام عرش الرب متسربلين بالنصر والغلبة (رؤ6: 9)؛ كم تمنيت أن أكون بينكم في الكنيسة وأنتم تتسابقون نحو السماء إلى أحضان يسوع، تتسابقون للقاء يسوع، كم تمنيت أن أكون بينكم وأنظر بعين الروح الملائكة ترفرف وترنم في سماء كنيسة سيدة النجاة، وهي تستقبل أرواحكم الطاهرة، وتلبسها أكاليل الإنتصار وتصحبها إلى السماء، كم تمنيت أن يكون لي نصيب بإكليلٍ مثلكم، لأتمتع برؤية السماء، فقد اشتاقت نفسي إلى الله، وعطشت نفسي إلى الله الإله الحي (مز42: 1 و 2)، وأقصر سلمٍ وأسلم طريق لذلك هو الشهادة بالدم لإسم المسيح الأكرم.

     وأنتم أيها المعترفون الجدد، يا من خرجتم من كنيسة سيدة النجاة أحياء بعد أن أحصيتم في عداد المستشهدين، طوباكم،  إذ نلتم من الضيقة العظيمة التي مرت بها الكنيسة أقسى ما يمكن أن يمر به إنسان، طوباكم وأنتم تتذوقون طعم الشهادة بالدم من أجل اسم يسوع مع أنكم أحياء، طوباكم والكنيسة تخصكم بطقوسها المقدسة في (جمعة المعترفين، بعد عيد القيامة المجيدة)، وتستذكر المآسي التي مررتم بها وأنتم صابرون على الضيقات وصامدون على الأيمان، طوباكم إذ أصبحتم قدوة المؤمنين في القرن الحادي والعشرين.

     وختاماً أيها المؤمنون الأحباء: سيبقى يسوع مصلوباً، وقد مدّ ذراعيه ليستقبل ويحتضن أفواج الغالبين المنتصرين من الكنيسة المجاهدة على الأرض، وهم ينتقلون إلى الكنيسة المنتصرة في السماء، ونبقى نحن الذين تسقط علينا أهوال الموت كل يوم (مز55: 4)، نبقى نعيش الآلام بإيمان، فالآلام هي الطريق إلى السماء، نبقى نحمل الصليب الثقيل على الأرض، فهو الباب الضيق المؤدي إلى السماء، نظهر أنفسنا دائماً كشهود للمسيح في صبرٍ كثير، في شدائد، في ضيقاتٍ، في ثمار الروح القدس العامل فينا، كمائتين وها نحن نحيا، كحزانى ونحن دائماً فرحون (2كو6: 1 – 10)، عيوننا تسكب ولا تكف بلا انقطاع، حتى يُشرف وينظر الربّ من السماء (مراثي3: 49 و 50)، يوم يأتي ليصحبنا معه في موكب المنتصرين إلى عرس السماء.

     رحم الربّ الشهداء برحمته الواسعة، واسكنهم فسيح جناته صحبة الأبرار والصالحين، وليحل أمنه وسلامه في قلوب المؤمنين الصابرين، ولترف أجنحة الطمأنينة والفرح في بيوت عباد الله الذين يسلكون بمخافة الله ومحبته.

     نصلي كي ينير الله عقول الذين يتجاهلونه على الأرض، لينبذوا كل أنواع العنف والشر، ويتخلصوا من حبال ومكائد المتسلطين على رقاب الأبرياء، ويعودوا إلى حظيرة السلام والمحبة والتآخي، ليعم الأمن والإستقرار في ربوع مجتمعنا المبتلى، آمين. 

 

 

  

أعلى الصفحة

  العودة للصفحة السابقة 

___________________________________________________________________________