إن ما يتعرض له مسيحيو العراق اليوم من قتل وتهجير ما هو
إلا مخطط ذو أبعادٍ تهدف إلى تمزيق جسد العراق (كما لايخفى
على ذوي البصيرة) من خلال إقصاء أهم مكوناته وهم المسيحيون
أبناء العراق الاُصلاء أصحاب الموروث الحِضاري الضارب في
عمق التاريخ.
تعرض المسيحيون وعلى مدى مسيرتهم منذ الماضي السحيق إلى
يومنا هذا للكثير من النكبات، ولعل ما قدموه من شهداء
رجالاً ونساءاً يشهد لهم بالتضحية والفداء. فعلى أيدي
الفرس نالوا الكثير من الويلات، مثال ذلك ما تعرضوا له
خلال ما أُطلق عليه (الاضطهاد الأربعيني) الذي دام أربعين
سنة في القرن الرابع للميلاد، قُتلَ فيه حوالي (160) ألف
مسيحي في بلدات شمال العراق، وأكثر من (30) ألف في بلدات
الفرات.
ومع تحرير الجيوش الإسلامية لأرض العراق حلُمَ المسيحيون
بتنفس الصعداء في ظل الدين الجديد وشاركوا الفاتحين في
معاركهم مع الفرس، كما حدث في موقعة الجسر سنة 13هـ/634م.
وفي القادسية الثانية أصطف المسيحيون في جبهات القتال مع
إخوتهم المسلمين يجمعهم هدفُ واحد هو الدفاع عن أرضهم
وحُرماتها وحرائرها، لم يفكروا بالهجرة والتخلي عن بلدهم
رغُم استطاعتهم ذلك، بل شرعوا أيديهم للموت لترتوي بدمائهم
أرض العراق لأنهم على يقين أن الدين لله والوطن للجميع.
إن ما ناله المسيحيون من عهود الصلح لشاهدُ على تأكيد
الإسلام أن لهم العهد والأمان وان حقوقهم وحرية شعائرهم
وحماية دور عبادتهم مصانة في ظل الدولة العربية الإسلامية
وهي أمانة جعلها نبي الإسلام محمد(ص) في أعناق المسلمين
حُكاماً ورعية فلهم ما لهم وعليهم ما عليهم. وهذا ما أكده
النبي في وصاياه التي خاطب فيها عموم المسلمين: "من آذا
ذمياً فقد آذاني" و "من ظلم معاهداً أو انتقضه أو كلفه فوق
طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسٍ فأنا حجيجه يوم
القيامة".
فهل على المسيحيون اليوم أن يُعلقوا على أبواب دورهم
وكنائسهم عهود الأمان التي منحها الإسلام لهم ليحفظوا بذلك
أرواحهم ممن يطلقون عليهم عبارات التكفير؟ ألم يُطلق الله
عليهم تسمية أهل الكتاب ليفرق بينهم وبين الكفار؟.
لم
يُعرف عن النبي محمد (ص) انه أطلق على ذمي كلمة كافر أو
انه قتل ذمياً أو عذبه أو هدم كنيسة أو بيعة. أليس هو من
أمر بأن يُقتل رجلُ من المسلمين كان قد قتل أحد المسيحيين
ظُلماً وعمداً. فبمن يقتدي من يرفعون شعارات الإسلام ألان
وهم أبعدُ ما يكونون عنه، وعلى ماذا يستندون في استباحة
بيوتٍ لم تُقام إلا ليُمجد فيها الله، وفي قتلهم النفس
البريئة التي حرم الله إزهاقها وجعل قتلها يُعادل قتل
الناس جميعاً. فأين كل هذا مما حل بالمصلين في كنيسة سيدة
النجاة من مجزرة تدمع لها حتى السماء.
بالأمس كان المتصوف الحسين بن منصور الحلاج ينادي: "...
الأديان كلها لله عز وجل، شغل بكل دين طائفة لا اختياراً
فيهم بل اختياراً عليهم، فمن لام أحداً ببطلان ما هو عليه
فقد حكم انه اختار ذلك لنفسه، وأعلم أن اليهودية
والنصرانية والإسلام هي ألقاب مختلفة وأسامٍ متغيرة
والمقصود منها لايتغير ولا يختلف (المقصود منها هو الله)".
وكم نحن اليوم بحاجة إلى أن يرفع رجال الدين المسلمين
باختلاف مذاهبهم أصواتهم (كما فعل الحلاج) من على منابرهم
وفضائياتهم مُصححين للعقول التي سيطر عليها ما نشأت عليه
من موروث اجتماعي مغلوط في معظمه حول نظرة الإسلام للأخر
والذي هو أبعد ما يكون عن جوهر الإسلام ليكون اقرب ما يكون
من التعصب للمذهب والقومية ، عارضين أمامهم سيرة النبي
العطرة وخُلقهِ في التعامل مع الطرف الآخر مؤكدين أن الله
لم يشأ أن يكون جميع البشر إخوة في الدين لكنه شاء أن
يكونوا إخوةً في الإنسانية، وهذا الأمر بحد ذاته شيءُ عظيم
لأننا سنتراحم مع بعضنا البعض متجاوزين حدود الدين
والقومية وكل مايفرقٍ لأننا سواسية أمام الله ولان الحكم
علينا هي أعمالنا ولان الله استخلفنا في الأرض لنكون رُسل
محبةٍ وسلام ولنعمل معاً على نشر مبادئ الله (إلهنا
الواحد) بين جميع البشر، لا لنكون جُنداً للشيطان ونعيثُ
في الأرض فساداً.
فبالأمس القريب أنشد المحامي اليهودي العراقي أنور شاؤول
قصيدة محاولاً من خلالها إنقاذ صديقه مير بصري الذي أُدخل
السجن ظلماً يقول في مطلعها :
إن كنتُ من
موسى قبستُ عقيدتي
فاأنا المقيمُ
بظلِ دين محمدِ ...
وأنا أقول
أمام الظلم الواقع على المسيحيين
إن كانوا على
دين المسيح تعبُدهم
فهم المقيمون
بظل دين محمدِ
فاالله الله
في ذمة رسول الله
وكفاه تألماً
من إيذاء أهل ذمته
فالعراق بلا
أبناءه كقنديلٍ بلا زيت