ديوان أوقاف المسيحيين والديانات الاخرى

كتابات عامة

                                                                                                                                                    

 

اتصلوا بنا

أرشيف الأخبار

مجلة آفاق مندائية

مجلة صدى النهرين

رئاسة الديوان

من نحن

الرئيسية

 

 

 

أثر الحياة الرهبانية في فكر الزهاد المسلمين

 

د. وسن محيميد

                                                                                                                                                           

 14 آب 2010

        

    تعد الرهبنة من النظم العقائدية التي ظهرت عند المسيحيين منذ نهاية القرن الثالث الميلادي، واتصفت بالزهد والتنسك والالتزام بأنظمة صارمة من العزلة والانقطاع عن العالم. وهي وليدة بعض الظروف التي مكنت من رواجها في القرن الرابع الميلادي، فبعد إعلان مرسوم ميلانو سنة313م، كان الأتقياء من المسيحيين لاتزال أنفسهم تواقة إلى التضحية لإثبات حبهم للسيد المسيح(عليه السلام)فمالت إلى الزهد والتقشف. وكان للاضطهادات التي نالها المسيحيون سبباً آخر من أسباب الرهبنة ، وخوفاً من أن تكون تلك الاضطهادات سبباً في نكرانهم الإيمان التجأوا إلى البراري والقفار، كذلك كان نشؤ الرهبنة انطلاقاً من حاجة الإنسان إلى تلبية نداء السيد المسيح(عليه السلام) إلى التجرد عن كل شيء في سبيل الحياة الأبدية وهذا ما أكده لتلاميذه والمقتدون به من الزاهدين والعاكفين على العبادة بقوله:"ومن لايحمل صليبه ويتبعني لايقدر أن يكون تلميذا لي، إلا إذا تخلى عن كل شيء له".(لوقا33،27:14)

 

    أما التصوف فهو العكوف على العبادة ، والزهد فيما يقبل الناس عليه من متاع الدنيا فأساس التصوف البعد عن العالم الدنيوي بما فيه من منكوحات ومطعومات ، والتحكم في النفس حتى تموت القوى الحسية وتطهر النفس لتسمو شيئاً فشيئاً حتى تتشبه بالعالم الآلهي.

إن نقطة الالتقاء بين الرهبان والمتصوفة تكمن في الابتعاد عن الدنيا والتوجه والانفراد بالمعبود. فكان تقشف الرهبان وطرق عيشهم محط إعجاب الزهاد الصوفية واحترامهم وإجلالهم ودافعاً لاتصالهم بهم ومحاورتهم التي تعد مثالاً للحوار العقلاني الذي يلتقي فيه الطرفان على إن الغاية من خلق الإنسان هي الدعوة إلى الله.

 

    أن نظرة زهاد المسلمين إلى الرهبان متأتية من إثناء نبي الإسلام محمد بن عبدالله(صلى الله عليه وسلم) على القسيسين والرهبان انطلاقاً لما جاء في القرآن من قوله تعالى:"ولتجدن أقربهم مودة للذين أمنوا الذين قالوا إنا نصارى وذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لايستكبرون".(سورة المائدة:82-83) وهذا منح الرهبان شيئاً من الجاذبية ، وحبب إلى الزهاد الاقتداء بهم في لبس الصوف الذي هو من تقاليد المسيحية، فالمسيح كان يلبس الصوف.

    لعبت الثقافة المسيحية دوراً في تصوف المسلمين ، تمثل فيما حمله مسيحو الشرق في الممالك الإسلامية وهم النساطرة(الكلدان) واليعاقبة(السريان) والموارنة، وجميعهم من العنصر الآرامي،بعد أن شادوا في الشام والعراق أدياراً وأنشأوا مدارس راقية أمتد أشعاعها لشتى الأصقاع.

    وتأثر المتصوفة بأصول ونزعات دينية يهودية ومسيحية ، فراحوا يلتمسون المشابه الظاهرية أو الخفية ، مثل استعمال الخرقة في مقابل ما يستعمله الرهبان من ثوب على الكتفين واستعمال الصوف والسبحة والخيط الأزرق والأسود للدلالة على إنهاء الصوم، كما في التلمود. والتشابه في بعض الموضوعات كمحاسبة النفس ، وهناك المشابه اللغوية الآرامية التركيب مثل ناسوت ،لاهوت ، رحموت ، رهبوت ، جبروت ، رباني ، روحاني ، نفساني ، جثماني ، شعشعاني ، وحدانية ، فردانية ، رهبانية ، عبودية ، ربوبية ، إلوهية ، كيفوفية.

    وكان لشخصية السيد المسيح(عليه السلام) أثر في تكوين النزعات الصوفية ، فما تكاد كتب التصوف تخلو من الاستشهاد بكلامه.

    بذل المتصوفون جهوداً مميزة في الرياضات الروحية ، ولم يدخروا وسعاً في الاطلاع على الكتب السماوية فجندوا معلوماتهم التي استقوها من التوراة والإنجيل للدعوة إلى الزهد والفقر والاستسلام والنظر إلى الوجود على انه واحد.

    ومن أولئك الزهاد مالك بن دينار(ت131هـ / 748م) الذي يعد أول شخصية صوفية امتزجت فيها الروحية الإسلامية بعناصر أهل الكتاب. فقد كان يغشى أديرة المسيحيين ويديم الاطلاع على الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد. إذ يقول: "كنت مولعاً بالكتب انظر فيها فدخلت ديراً من الديارات فاخرجوا كتاباً من كتبهم، فنظرت فيه، فإذا فيه: يا أبن آدم لم تطلب علم مالم تعلم، وأنت لاتعمل بما تعلم؟". وعنه قال مكتوب في الزبور:"طوبى لمن لم يسلك طريق ألاثمة ولم يجالس البطالين، ولم يقم في هوى المستهزئين، إنما همه حكمة الله ، لها يطلب وبها يتكلم، فمثلهُ مثل شجرة في وسط الماء لايتساقط من ورقها شيء، وكل عمل هذا تام، لايذهب عنه". وتنسب له أقوال قرأها في التوراة منها،قرأت في التوراة : "ابن آدم لاتعجز أن تقوم بين يدي في صلاتك باكياً، أنا الله الذي اقتربت لقلبك، وبالغيب رأيت نوري" ومكتوبُ في التوراة: "مثلُ امراءة حسناء لاتحصن فرجها كمثل خنزيرة على رأسها تاج، وفي عنقها طوق من ذهب يقول القائل: ما أحسن هذا الحلي وأقبح هذه الدابة". وعن استشهاده بأقوال السيد المسيح(عليه السلام) يقول: "مّر عيسى ابن مريم مع الحواريين على جيفة كلب ، فقال الحواريون : ما أنتن ريح هذا .فقال عيسى:ما أشد بياض أسنانه".وهي عظة لاجتناب الغيبة

    وفي بعض أقواله يستلهم ببعض ماورد في الإنجيل من عباراتٍ دون أن يذكر انه ينقل عن الإنجيل ومن ذلك قوله:"يا هؤلاء إن الكلب إذا طرح إليه الذهب والفضة لم يعرفهما ، وإذا طرح إليه العظم أكب عليه، كذلك سفهاؤكم لايعرفون الحق"وهذا القول قد نظر فيه إلى قول المسيح في إنجيل متى 6:7 ، عبارة "لاتعطوا الكلاب ما هو مقدس، ولا ترموا درركم إلى الخنازير ، لئلا تدوسها بأرجلها وتلتفت إليكم فتمزقكم".

    وكذا الحال بالنسبة للمتصوف فرقد بن يعقوب السبخي (ت131هـ / 748م) الذي استشهد بأقوال تشير إلى اطلاعه على الكتاب المقدس. فيقول قرأت في التوراة: "أمهات الخطايا ثلاث أول ذنب عُصي الله به: الكبر، والحسد، والحرص، فأستل من هؤلاء الثلاث ست فصاروا تسعاً: الشبع، والنوم، والراحة، وحب المال، وحب الجماع، وحب الرياسة". وعنه قرأت في التوراة: "من أصبح حزيناً على الدنيا أصبح ساخطاً على ربه ومن جالس غنياً فتضعضع له ذهب ثلثا دينه. ومن أصابته مصيبة فشكاها إلى الناس فكأنما يشكو ربه عز وجل".

    ونقل أن عيسى ابن مريم قال:"طوبى للناطق في آذان قومٍ يسمعون كلامه انه ما تصدق رجل بصدقة أعظم أجراً عند الله تعالى من موعظة قومٍ يصيرون بها إلى الجنة". وهذا يشير إلى انه كان على صلة بالتراث اليهودي والمسيحي أو برجال هذا التراث.

    وكان احمد بن الحسين المعروف بابن السماك (ت424هـ / 1032م) الواعظ في جامع المنصور ببغداد مطلعاً على التوراة ومستشهداً بما ورد فيها من حكم عن العلم وعمل العالم، ولأبي حفص عمر بن محمد السهروردي(ت 632هـ / 1234م) صاحب الطريقة الصوفية المسماة بالسهروردية اطلاع على الإنجيل.

    وقد أصبحت ديارات الرهبان التي كانت مستقراً للزهد والورع والبعد عن الدنيا وشؤونها محطاً لبعض زهاد المسلمين ،يروون عن الرهبان أقوالهم في كيفية التقرب إلى الله والهرب من اللذات .منهم الفقيه محمد بن إبراهيم البغدادي الذي كان يكثر من أسئلة الرهبان  ويأخذ عنهم النصائح،والمتصوف عبد الواحد بن زيد(ت177هـ / 973م) الذي طاف في بلاد الشام وبيت المقدس داعياً إلى المحبة بين الله والعبد وتردد على بعض رهبانها سائلاً عن كيفية التقرب إلى الله من خلال الزهد، وذا النون المصري(ت243هـ / 861م)الذي تأثر بعبارة مكتوبة بالسريانية تقول:"يُقدر المقدرون والقضاء يضحك" ، والذي حادث كثيراً من الرهبان.

    وقد عَّد بعض الزهاد الرهبان معلمين لهم، وأشاروا إلى ذلك، كقول إبراهيم بن أدهم (ت172هـ/ 788م): "تعلمت المعرفة من راهبٍ يقال له سمعان".

    كان للرهبان والزهاد اثرُ في نفوس عموم المسلمين، لما يحملون من نصح ورشد للناس، وهناك من جعل كثرة التعبد سبباً لذكاء الذهن والقرب من عيش الملائكة.

 

 

 

 

 

 

أعلى الصفحة

  العودة للصفحة السابقة