إحتضان
النصارى للدعوة الاسلامية
د. وسن حسين
محيميد
العودة للصفحة السابقة
8
نيسان 2009
إن كل ماجاء به الأنبياء والرسل من رسالاتٍ سماوية لاقت
معارضةً شديدة، فليس من السهل أن يتقبل الإنسانُ عقيدةٍ جديدة
تمحو ماتوارثه عن أبائه وأجداده وان كان الموروث مزيجاً من
ضلالٍ وجهلٍ وخرافات. لذا واجه المسلمين منذ بزوغ فجر الدعوة
الإسلامية عُنفاً واضطهاداً من قبل أبناء قومهم، الذين حاربوا
الدين الجديد وأتباعه فسعوا إلى تضييق الخناق عليهم، وأمام هذه
المعاناة أمر الرسول الكريم محمد(ص) أتباعه بالهجرة إلى الحبشة
لما عرفه عن مَلكها النجاشي (أسم النجاشي هو مصمحة او أصحم
ومعناه بالعربية عطية)، من عدلٍ وصلاح، إلى أن يجعل الله له
ولأتباعه مخرجاً مما هم فيه من ضيق.
فكانت الهجرة إلى الحبشة على مرحلتين الأولى تمت في رجب من
السنة الخامسة للبعثة، وعادت في شوال من نفس السنة، وكان عدد
من هاجر من المسلمين أحدى عشر رجلاً وأربع نسوة، متسللين إلى
الشعيبة (مرفأ مكة ومرسى سفنها قِبل جدة). فركبوا سفينتين لبعض
التجار قاصدين بلاد الحبشة، وخرجت قريش في أثارهم فلم يدركوا
منهم أحداً.
على أن بعض المهاجرين المسلمين إلى بلاد الحبشة مالبثوا أن
عادوا إلى مكة حين شاع بينهم نبأ دخول قريش في الإسلام، فلما
قدموا إليها تبين لهم أن ماوصلهم عن أسلام أهل مكة غير حقيقي،
وأشتد عليهم قومهم ولقوا منهم الكثير من الأذى. فأذن لهم
الرسول في الخروج إلى أرض الحبشة، فكانت الهجرة الثانية بشكل
دفعات وقد لاقوا في خروجهم مشقةً وتعنيفاً من قريش. فهاجر من
الرجال ثلاثة وثمانون، ومن النساء ثمانية عشرأمراءة، فأكرمهم
النجاشي وأمنهم على حياتهم، ومارسوا شعائر دينهم لايخشون
تعذيباً ولاجوراً.
وهنا
تبدو الصورة المعاكسة بين أهل التوحيد وأهل الشرك ففي الوقت
الذي يضطهدُ فيه أهل قريش المسلمين وهم أبناء جلدتهم، يحتضنهم
المسيحيين وهم أهل التوحيد فهنا تكمن غاية الرسالة السماوية
التي تدعو إلى وحدانية الله. فمن الطبيعي أن يساند ويوأزر
الموحدون بعضهم البعض، باختلاف أجناسهم وأعراقهم وأراضيهم،
فالمسلمين هاجروا بدين التوحيد إلى أهل التوحيد. فأحتضنهم
النصارى ووفروا لهم فرص العمل فأشتغلوا بالزراعة والصناعة
وعُدوا كأهل البلاد الأصليين، فقدموا كل الاحترام لقوانين
البلاد التي احتوتهم.
لما بلغ قريش إكرام النجاشي للقادمين عليه من المسلمين، أساءها
ذلك ولجاءت إلى طريقةً تؤذي بها محمداً وأتباعه، فأتفقوا على
أن يكتبوا فيما بينهم كتاباً يتعاقدون فيه على أن لا يُعاملوا
بني هاشم وبني عبد المطلب في بيع ولايتاجروا معهم ولايكلموهم
ولايجالسوهم ولايزوجوهم ولايتزوجوا منهم حتى يسلموا محمداً(ص)
ليقتلوه، وكتبوا بذلك صحيفة علقوها في جوف الكعبة، توكيداً على
أنفسهم. كان من أثر هذه المقاطعة أن أنحاز بنو المطلب وبنو
هاشم إلى شعب أبي طالب بشرقي مكة وظلوا مقاطعين ثلاث سنوات،
لقوا فيها الكثير من العناء، فكانوا لايخرجون إلا من موسم إلى
أخر، ولايصل إليهم القوت الا خفيةً. غير أن الشفقة والرأفة
أخذت نفراً من القرشيين، فخرجوا إلى بني هاشم وبني المطلب
وأمروهم بالعودة إلى مساكنهم، وبذلك نقضت صحيفة المقاطعة.
لم يكتف القريشيين بذلك فسعوا إلى إيذاء المسلمين الذين
هاجروا إلى الحبشة، فأرسلوا عمرو بن العاص وعبدالله بن ربيعة
محملين بالهدايا إلى النجاشي وبطارقته وقالوا له: انه لجاء إلى
بلادكم ناساً من سفهائنا فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم
وجاؤوا بدين مبتدع لانعرفه نحن ولا أنتم، وقد أرسلنا أشراف
قومهم لتردهم إليهم ولكن النجاشي أبى أن يردهم حتى يسمع قولهم
فلما سمِعَ عن دينهم ونبيهم طلب مهنم أن يقرؤا عليه بعضاً من
القرآن فقرأ عليه جعفر بن أبي طالب صدراً من سورة مريم فبكى
النجاشي وقال: إن هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاةٍ
(المشكاة الكوة غير النافذة، وقيل هي الحديدة التي يعلق عليها
القنديل أي أن القرآن والإنجيل كلام الله تعالى) واحدة. فوالله
لاأسلمهم أبدا، فلما كان الغد عاد عمرو بن العاص إلى النجاشي
وادعى أن هؤلاء المسلمون يسبون عيسى بن مريم (عليهما السلام)
ويقولون فيه قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فسألهم عن قولهم فأجابه
جعفر: نقول به الذي جاءنا به نبينا: هو عبدالله ورسوله وروحه
وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فضرب النجاشي بيده إلى
الأرض فأخذ منها عوداً، ثم قال: والله ماعدا عيسى أبن مريم
ماقلت هذا العود. أذهبوا فأنتم أمنون في أرضي من سبكم غَرم.
ورد هدية قريش قائلاً: ما أخذ الله الرشوة مني حتى أخذها منكم،
ولا أطاع الناس في حتى أطيعهم فيه. وهكذا عاد وفدُ مكة خائباً.
مكث المسلمون في الحبشة حتى السنة السابعة للهجرة، فبعث إليهم
الرسول(ص) من حملهم إليه، فعادوا وقد فتح الله على المسلمين
خيبر فقال رسول الله (ص):"ماأدري بأيهما أُسر،بفتح خيبر أم
بقدوم جعفر".
العودة للصفحة السابقة
|