عاش المسيحيون على أرض النهرين (ميزوبوتاميا) منذ الآف
السنين، وخلفوا فيها ارثاً حِضارياً وشواهد تأريخية تشير
إلى أصالة وعمق جذورهم فأحبوا هذا البلد وأخلصوا له قولاً
وفعلاً وقدموا التضحيات في سبيله.
كما هو
معروف فأن رجال الدين المسيحيين منذ القدم والى ألان
تميزوا بثقافة عالية وتمهُر بمعارف ولغات عدة،لم يبخلوا
بها على أحد ولم يجعلوها حِكراً لهم ولم يتعالوا ويتفاخروا
بشيء، بل على العكس فشعارهم المحبة ولباسهم التواضع ونقاء
السريرة وصدق القول.
وهنا
نشير إلى أحد هؤلاء المفكرين من رجال الدين وهو القس بطرس
ميخائيل يوسف حدادّ، الذي تربطني به معرفة شخصية تربو على
التسع سنوات، فقد كان هذا الأب خيرُ معين لي منذ بدء
مسيرتي العلمية في الماجستير والدكتوراه،والى ألان، فمنه
نهلت الكثير من المعرفة فهو رجل معطاء وذو دماثة أخلاقٍ
وطيبة لانظير لها. وان كنت هنا أسجل جزءاً يسيراً عن حياة
مفكرٍ كرس نفسه وسخر قلمه وعلمه لدوام النهوض بالمسيرة
العلمية لبلده الذي أولاه عنايةً فائقة في كتاباته.
ولد
القس ناظم (أسمه قبل الدخول في السلك الديني) ميخائيل يوسف
مقدسي رفو حدادّ في الموصل بتاريخ 25\11\1938، من أسرة
كلدانية عرفت بالتزامها الديني، كان جده يوسف شماساً،وهومن
أشد الذين تأثر بهم الأب بطرس الذي اعتاد منذ صغره التردد
على الكنيسة أكان مع إخوته أومع زملائه طلاب المدرسة التي
كانت تجمع أبناء المسيحيين من الكلدان، تلك المدرسة التي
تأسست في النصف الأول من القرن التاسع عشر، بجوار كنيسة
شمعون الصفا ولهذا عرفت المدرسة بأسم مدرسة شمعون الصفا،إذ
كان معظم أبناء الطائفة الكلدانية يترددون عليها.
بعد أن
أنهى الأب بطرس حدادّ دراسته الابتدائية عزم على الدخول في
السلك الكهنوتي، الا ان عائلته منعته من ذلك وحُجتهم انه
لايزال صغير السن، فأنتقل إلى مدرسة متوسطة حكومية أكمل
فيها الصف الأول المتوسط الاان حماسه واندفاعه الشديدين
نحو الإقبال على الحياة الدينية دفعاه إلى دخول المعهد
الكهنوتي في خريف سنة 1951،وهناك أكمل دراسته المتوسطة.
وفي
صيف 1954اختير من قبل الإدارة الكنسية لإكمال دراسة
البكلوريوس والماجستير والدكتوراه في الجامعة الاوربانية
(بروبغندة) في ايطاليا. وفيها نال شهادة البكلوريوس سنة
1957 وبعدها أكمل دراسته العليا فنال شهادة الماجستير في
الفلسفة سنة 1961 وفي نهاية هذه السنة تخرج قسيساً، ثم نال
شهادة الدكتوراه في اللاهوت سنة 1964 وهي السنة التي عاد
فيها الأب بطرس حدادّ إلى وطنه العراق ليبدءا خدمته في وسط
أبناء دينه وكان أول تعيين ديني له في كنيسة أم المعونة في
منطقة الدواسة بالموصل مكث فيها إلى سنة 1966 إذ طلبه من
بغداد البطريرك الراحل بولس الثاني شيخو ليقوم بتدريس
التاريخ الكنسي في المعهد الكهنوتي الكلداني بالدورة،وبعد
مرور سنتين نقلت خدماته إلى كنيسة مار يوسف في الكرادة
داخل، وبعد عشرة سنوات نقلت خدماته إلى كنيسة مارفثيون في
البلديات، وفي سنة2001 نقل الأب بطرس إلى كنيسة مريم
العذراء في كرادة خارج ولايزال. عمل الأب بطرس سكرتيراً
لرئيس الطائفة الكلدانية منذ سنة 1989 أي في عهد البطريرك
الراحل روفائيل الأول بيداويد، وفي عهد خلفه البطريرك
عمانوئيل الثالث دلي أستمر الأب بطرس في منصبه إلا أن سوء
حالته الصحية دفعته في سنة 2006 إلى طلب إعفاءه من المنصب
الذي لازال شاغراً من بعده، كما انه احد أعضاء هيئة تحرير
مجلتي بين النهرين ونجم المشرق.
أتقن
الأب بطرس حدادّ لغات عدة فمن عائلته تعلم العربية وفي
المعهد الكهنوتي تعلم الانكليزية والفرنسية والايطالية
واللاتينية وغيرها من اللغات. ومنها ترجم مؤلفات عدة تحكي
صفحاتٍ من تاريخ العراق الذي أعطاه جُلَ اهتمامه يدفعه في
ذلك حُبه وحرصه على حفظ تراث بلده ومساعدة الباحثين وطلبة
الدراسات بما يصبون إليه من حقائق ومعلومات، نشر الأب بطرس
الكثير من المقالات الرصينة على صفحات أكثر من (15) مجلة
ونشرة محلية وعالمية وبعدة لغات. وله مايقارب الـ (40)
مؤلف بين تآليف واعداد وترجمة وتحقيق. ونشير هنا إلى أبرز
ماترجمه الأب بطرس حدادّ إلى القارئ العراقي عن تاريخه
وتراثه ومجمل حياة أجداده في مختلف الفترات الزمنية التي
مرت بهذا البلد من خلال كتب الرحالة الذين جابوا شتى أصقاع
العراق ومنها ترجمته من الفرنسية مقتطفاتٍ من رحلة تيفنو
إلى العراق المنشورة في مجلة بين النهرين (1974)، وعن
الايطالية ترجم رحلة الأب فنشنسو إلى العراق ونشرها بقسمين
الأول نشر بمجلة مجمع اللغة السريانية (1975) والقسم
الثاني نشر في مجلة المورد (1976) وقد طبعت الرحلة بكتابٍ
مستقل في الموصل سنة 2009، وله عن الانكليزية رحلة تيلر
إلى العراق المنشورة بمجلة المورد (1982) العدد1، ورحلة
لجان إلى العراق، الفرنسية التي نشرها في مجلة المورد
(1983) العدد3، وطبعت بكتاب مستقل في بغداد سنة 2009، كما
ترجم تقرير المطران باييه عن العراق وهو باللغة اللاتينية
ونشره في مجلة بين النهرين (1983) وعن اللاتينية أيضا ترجم
الرحلة الشرقية للأب فيليب الكرملي ونشرها في مجلة المورد
(1989)العدد4، وعن الايطالية ترجم رحلة فيدريجي إلى العراق
المنشورة في مجلة المورد (1989)العدد4 وعن الايطالية ترجم
أيضا رحلة ديللافاليه إلى العراق طبعت ببغداد سنة 2001،
وكذلك رحلة سبستياني إلى العراق القرن السابع عشر طبعت
ببغداد سنة 2004 وفي هذه السنة صدرت له رحلة أخرى عن
الفرنسية هي رحلة من بغداد إلى حلب للوي جاك روسو، وفي سنة
2005 صدرت له ببغداد رحلتان ايطاليتان هما رحلة بالبي إلى
العراق ورحلة اوجين فلاندان رحلة في مابين النهرين. ولديه
رحلات أخرى قيد الطبع والأخرى تحت الترجمة.
صدقاً أن الأب بطرس حدادّ من الشخصيات المسيحية
التي يفخر العراق بها شأنه شأن الأب أنستاس ماري الكرملي
فهم أناس جندوا أنفسهم وأفنوا حياتهم خدمة للعلم والمعرفة
نهوضاًً ببلدهم الذي يجري حبه في عروقهم كما الدماء وهذا
جزءُ من وفائهم له ،أرجو الله أن ينعم على القس بطرس حدادّ
بموفور الصحة وان يجزيه عني وعن كل الذين مد إليهم يد
المساعدة خير الجزاء.