وترجل فارس آخــر...

الأب الدكتور يوسف اسطيفان البناء

 20 كانون االثاني 2009


 

     أبروهوم نورو .. إسمٌ .. عَلمٌ .. جبل شامخٌ .. عبقريٌ .. مفكرٌ .. عاشقٌ .. جنديٌ مجهول .... قل فيه ما شئت، وصنّفه كما اشتهيت، فهو يطابق كل الصفات، ويتناسق اسمه مع كل المسميات والتصنيفات في عالم السريانية الواسع الشاسع بين اللغات.

     عرفته في نهاية الستينات من القرن العشرين، يوم حل ضيفاً مكرماً على أبرشية الموصل السريانية ومعه كتابه (جولتي) الذي كان قد صدر ونشر حينها، ونظرت في عينيه الصغيرتين أبحث عن شيءٍ يدلني إلى فحوى ما يحويه ذلك الجسد النحيف من كنوز، وراقبت شفتيه لألتقط ما تُخرجُ بأحرفِ  الـ "اولف  بية .." من عبر ودروس، وهالني ما وجدتُ:

     ففي عينيه بريقٌ يشع بالقوة والثقة والإصرار على نصرة لغة المسيح وأهلها، ومن بين شفتيه تنساب دررٌ موسيقية النبرات، عذبة الألحان، بسلمها الموسيقي ومفاتيحه السداسية الحسناوات :

ابجد    ؤوز    حطي   كلمن   سعفأ    قرشة

     هنّ الحسناوات الحبيبات اللاتي بذل أبروهوم نورو كل ما يستطيع في خدمتهنّ ومناغاتهنّ وإعلاء شانهنّ بين الحضارات في عالم اليوم وعولمته الطاغية.

     وأنا أنظر إليه، سبقتني دخائلي معبرة عن المشاعر الجياشة تجاه هذا الإنسان (الذي يستحق حقا لقب إنسان)، فتسارع القلب بنبضاته صارخاً: أحبك يا أبروهوم نورو، أحبك .. أحب وداعتك وغيرتك وإصرارك وسريانيتك .. فذلك هو أنت: وداعة اجتماعية وغيرة وقادة وإصرارٌ جهادي في سبيل السريانية.

     وتحسرت .. تحسرت .. إذ كم كنت سأسعد لو استطعت أن أضمّ هذا الرهاوي العاشق والمجاهد الملهم بين ضلوعي متناغياً معه بالسريانية، لغة السيد الحبيب، لغة الأجداد، التي لم تتح لنا الفرصة في الموصل أن نتقنها ونتخذها عصب حياة لنا كما كان يجب أن تكون، فأبرشية الموصل، عروس أبرشيات المشرق السريانية، لطالما افتقرت إلى الغيرة السريانية الصادقة، ولطالما افتقرت لمعلمي هذه اللغة السماوية منذ غادرها الخالدين نعمة الله دنو وبولس بهنام.

     ماذا أقول فيك يا ابروهوم نورو وقد جاء دورك بين الفرسان السريان الشجعان لتترجل، وشمس عمرك المعطاء قد غابت !!  

    أبروهوم نورو : أحد الشخصيات الإبداعية السريانية الفذة، ممن أفرزتهم بل فرضتهم ظروف صعبة وتجارب قاسية ألمت بالكنيسة السريانية، وباللغة السريانية، وبالأمة السريانية، يوم ذبح الألوف وشرّد مثلهم وهجّروا من أرضهم وديارهم، وأجبر البعض منهم على ترك مبادئهم الدينية وتراثهم السرياني في الهجمة الشرسة التي عمل مخططوها على إفراغ المناطق الجغرافية السريانية من أبنائها لطمر حضارتهم وتراثهم ولغتهم ومبادئهم، فانتفض الغيارى من السريان كرد فعل لذلك، يكافحون مجاهدين بكل عزيمة وإصرار، وغايتهم نصرة السريانية والكنيسة والأمة؛ كيف لا وهو ذلك الرهاوي الأصيل الذي يمثل صرخة الرهاويين الأبطال وهم يتنازلون عن انتمائهم للأرض التي أحبوها وصروحها الدينية والثقافية والتراثية التي أجبروا على تركها والنزوح إلى حلب سنة 1924م. ليتمسكوا بانتماءهم الأيماني والسرياني في المناطق الجديدة التي سكنوها، وكعربون لذلك، اطلقوا عليها تسمية : حي السريان في حلب.

    أبروهوم نورو : جسد ضعيف البنية، قويٌ الإرادة وصلب الهمة، بحمله كنوز التراث السرياني وعشق اللغة السريانية الحبيبة، ومحبة أبناء السريان بأبعد المديات؛ فهو مطرقة احتجاج على ما وصلت إليه اللغة السريانية بلهجاتها الفصحى الأصيلة من تراجع، إذ أصبحت في الغالب مقتصرة على الكتب الطقسية والمخطوطات التراثية، بينما حلت محلها وفي مناطق تواجدها وربوعها الأصيلة، لغات ولهجات غريبة، أو شوهت بلهجات محكية محلية امتزجت بمفردات دخيلة من لغات أخرى، يتباهى بها مروجوها دون السريانية الأصيلة.

    أبروهوم نورو :  عذب الخصال، لطيف المعشر، حلو المنال، يناغي أحرف الـ "اولف بية .." النورانية بكل دلال، عصاميّ رحّال، يقتحم المفردات السريانية في كل مجال، وكأنه يجمع لآلئ آرام على شواطئ محيطات التراث الحضاري، يلتقطها من بين الرمال، ليظهر للمجتمع ما تحويه من غذاء روحي وثقافي، ومن حكمةً ووهجٍ وجمال، يقدمها لكل متابع ولهانٍ، قلائد بكرم الرجال.

    أبروهوم نورو : امتدادٌ أصيل لجحافل سريانية مقدسة، شهدت وتشهد للمسيح ولغته السريانية المقدسة، منهم من شهد بالكلمة، ومنهم من شهد بالدم ببهجة وفرح روحي، وكأنهم في عرسٍ روحي زغاريده آلامٌ وسيوفٌ وجراحاتٌ وشجن، لتسمو تطلعاتهم ونفوسهم فوق الذات والأنا، نحو الأقدس والأسمى دائماً، كنيسة المسيح ولغتها السريانية المقدسة.

    ابروهوم نورو لم يمت، فهو خالدٌ في قلوب كل عشاق السريانية، وهو حاضر في كل صلاة يقيمها مؤمن باللغة السريانية، وفي كل مهرجانٍ واحتفال عن السريانية.

    أبروهوم نورو لم يمت طالما تزينت مرابع آرام بأسود سريان من علماء وآباء وخدام، وطالما  كان في العرين السرياني أشبالٌ يسيرون على الدرب، ويتفننون في سبر غور "الأبجد هوّز" السرياني بكل عزمٍ وحبٍّ واحترام.

    إلى رحمة الله يا ينبوع آرام العذب، وسيبقى اسمك واجتهادك في حقل السريانية نوراً خالداً يضيء الطريق للنفوس السالكة على خطى الأمجاد، وستبقى الحناجر تقتدي بك وهو تنطق بلغة المسيح وتردد ذات الأحرف التي بشّر بها بالملكوت على الأرض، وبها وعظ وعلّم الأمثال والدروس، وبها على الصليب نادى الآب السماوي وفتح الفردوس.