اتصلوا بنا

الأرشيف

مجلة صدى النهرين

اخبارنا

رئاسة الديوان

من نحن

الرئيسية

 

الأخبــــــــــار

مسيحيو العراق بين المخاوف والآمال

الخبر منقول من موقع بطريركية بابل الكلدانية

 

  17 تشرين الثاني 2016

 

 

  الدكتور المطران يوسف توما

رئيس أساقفة كركوك والسليمانية للكلدان

كان من المهم في هذا المؤتمر، أن يُسمح للسياسيّين وممثلي الكنائس والزعماء الدينيين وغيرهم من الضيوف، مناقشة التحديات الرئيسية التي تواجه زماننا ومنطقتنا في الشرق الأوسط. ولعل ذلك سيوفر فرصة رسم خطوط التعاون بين مؤسساتنا، وهذا ضروري جدا للمجتمع.

لكن التساؤلات هائلة وواسعة ولا يمكن أن تحتويها بضع ساعات لقائنا. يمكن أن نبدأ باستعراض سريع للماضي، وقراءة سريعة أيضا لظاهرة "داعش". ثم ننكب على الحاضر، لكن، ما يهمّ هو كيف نعدّ للمستقبل على أصعدة عديدة ومختلفة؟

 لا بد لكل واحد أن يطرح على نفسه ثلاثة أسئلة:

 1- من أين جاءت داعش؟

 2- لماذا بقيت كل هذه الفترة بالرغم من جرائمها؟

 3- ماذا بعد تراجع داعش وطردها من الموصل ومنطقة سهل نينوى؟ هل هنالك أمل بعودة المسيحيين والمكونات الأخرى إلى ديارهم بعد أن انتهك السلام مع جيرانهم وتأذت ذاكرتهم ببشاعات وآلام لا تحصى؟ ثم ما هي الضمانات للمكونات غير المسلمة (أو غير السنية) في منطقتنا؟

 1 – من أين جاءت داعش؟ جاءت داعش من حاضنات الكراهية وعدم تقبل الآخر والسير حثيثا باتجاه يعاكس شرعة حقوق الانسان، في العالمين الإسلامي والعربي، يقسمون العالم ويستعدون كل من لا يشبههم، يرفضون تلك الشرعة، القوميون – في الماضي القريب – والمتدينون اليوم، المرأة – نصف المجتمع – تعتني منهم، وهذا أيضا جزء من رفضهم للشرعة. إن كان العالم يجرّم من يشعل الحرائق، لماذا لا نلاحق من يشعل نار الفتنة والطائفية، وهو طليق في بعض الدول، يتكلم بمرأى ومشهد من الجميع:

 قنوات فضائية، دور عبادة، مؤسسات إعلامية، فتاوى: هذه مقتطفات مما نسمع في بعض الفتاوى أو الخطب الدينية:

 – كل دين غير دين الإسلام كفر وضلال، وكل مكان للعبادة على غير دين الإسلام هو بيت كفر وضلال…

 – من اعتقد أن الكنائس بيوت الله، وأن الله يعبد فيها، أو أن ما يفعله اليهود والنصارى عبادة لله فهو كافر.

 – تحريم التهنئة بالعيد لغير المسلمين والدعاء بترميل نسائهم وتيتم أولادهم. وغيرها كثير…

 إذن، مواقف وخطب كهذه أنتجت بدون شك أشخاصاً لقتل "هؤلاء الكفار والمرتدين" بذات البغضاء التي تحملها هذه العبارات نفسها! لماذا نتعجب؟ هل يجري جديّا بحث عن حاضنات الإرهاب لتجفيف مصادره؟

 2 – لماذا بقيت داعش كل هذه الفترة الطويلة بالرغم من جرائمها؟ للأسف حتى الآن لم يجر أي علاج جدّي لهذه الظاهرة، ولم يتم فتح ملف جرائم داعش ولم يتعرض من يلقى القبض عليهم لمحاكمات علنية، بل هنالك بعض البلدان لا تزال في قوانينها تعتبر الانتماء إلى داعش "جنحة délit" وليس جريمة crime. هل يمكن أن نرى إجراء محاكمات تفترش العالم كله، ولا يبقى مكان يحتمي المجرمون فيه؟ أين محكمة العدل الدولية؟

 3 – ما بعد داعش؟ الكل يعترف بالعجز أمام هذه الظاهرة، ويتساءل: لماذا جاءت داعش في هذه الفترة من التاريخ بالذات؟

 كذلك يقر الجميع بأن التهديد يطال الكل وفي أي مكان أو بقعة من العالم، بل إن سلام العالم مهدّد بالفكر المتطرّف والمنظمات الخفية الهائلة التي تقف وراءه. إن محاولات تجفيف مصادر التمويل الإرهابي مضحكة، وإجراءات الحكومات ضعيفة أكثر فأكثر أمام ضعفها وإغراء الأموال.

هناك كذلك ضعف في التشريع والقوانين الدولية وعجز المؤسسات مثل الأمم المتحدة في إعطاء الأولوية لـ "شرعة حقوق الانسان" (1948)، نرى ذلك في عدم وجود رقابة على المناهج التربوية في العديد من البلدان الاسلامية، على المؤسسات الإعلامية أو الشبكة العنكبوتية. لعل الأكثر إثارة للغضب هو الضعف السائد العام، وقلة الشجاعة وغياب التخطيط على المدى البعيد. هنالك جهود بالتأكيد مشكورة مثل تعيين الأمم المتحدة مؤخرا نادية مراد اليزيدية العراقية، وهي إحدى ضحايا داعش، سفيرة الأمم المتحدة، لكن ما مصير البقية؟

إن الكنائس والمنظمات غير الحكومية قد انكبت على موضوع "الأقليات" في الشرق وهو ما سمّاه بطريرك الكلدان لويس ساكو، بـ "الدمار الفكري"، حيث يحذر "من يعتقدون ان الارهابيين لا يمتون الى الاسلام بصلة، ولكنهم يمضون في تجاهل الفكر الذي يتغلغل بين الأجيال الصاعدة، والذي يعلن ان الجنة تُضمَن بقتل الابرياء، وهذا في القرن الحادي والعشرين، ومن يعنيه هذا التحذير باستمرار وهو يرى التقهقر بين طبقات شعوب حشرت في زوايا العجز والجهل؟".

ألسنا نضيع الوقت في معارك جانبية؟ أليس السياسيون يدورون في حلقات مفرغة من صراعات المصالح والمحاصصة، أليس المفكرون غارقين في مسائل الهوية غير آبهين بالهدف وهو إسقاط داعش فكريا قبل أن يكون عسكريا؟ إن داعش كالسرطان، وقد عرف العالم أشكالا منه في القرن الماضي خصوصا، شأنه شأن النازية والشيوعية والفاشية، هل نحتاج إلى قرن كامل لنفهم النتيجة الحتمية؟ ألم يكن في الماضي أيضا أشكال تلكؤ وتردد؟ يقول البعض: لعل الحوار سينتج شيئا إيجابيا؟ وهل يمكن الحوار مع داعش؟ لماذا تتكرر الأخطاء ولا تعالج الأمور فتبقى بالرغم من ملايين الضحايا.

أما آن الأوان لكي يتبادر المسلمون في العالم والغالبية منهم معتدلون ويريدون الخير، وغير المسلمين من ذوي الإرادة الطيبة للخروج بموقف واضح ومحدّد للتعامل بجديّة وليس بسطحية، مع موضوع التطرف والإرهاب الذي يشكل خطراً على البشرية كلها، وأن يشكلوا جبهة موحدة لمواجهة الانغلاق والتطرف والكراهية ووقف هذا السرطان الرافض للعيش المشترك والمواطنة والحداثة؟

ان جهاديّي داعش واشباهها يعتقدون ان الجنة تُضْمَن بقتل الأبرياء بحزام ناسف أو عربة مفخخة، أو عبوة، أو حتى بسكين! وإذا ما عنّ لي أن أحلم، أقول: أمام هكذا حالة ما هو مستقبل المكوّنات في العراق؟ ومن يستطيع مساعدتها؟ وبماذا نبدأ؟ جئتكم هنا لأقول ما ينتظره المسيحيون (والمكونات الأخرى) في بلادنا ولعله يختلف عما ترونه وتسمعونه:

 كفانا تكرارا لما يحدث، فقبل قرن بالتمام تعرّض عدة ملايين منا، في هذه المنطقة، لمأساة إبادة مروعة، وجاءت داعش الآن لتكررها، وهي لا تختلف عن متطرفي العثمانيين. على الدول والمرجعيات الدينية اليوم أن تقف معاً بمواجهة هذه الايدولوجية وتفكيكها من خلال نشر ثقافة الحرية، والعمل بالعقل، والانفتاح والتسامح والمحبة والإخاء والتعايش واحترام حقوق الانسان والاختلاف والتعددية. وهذا لا يمكن إلا عبر عملية تنشئة وتثقيف وتطوير للمناهج الدراسية التي باتت مصدرا للتشدد الديني بشكل كبير، وتهيئة أسس السلام والاستقرار والتعاون والعدالة واعتماد الحوار الحضاري والهادئ والشجاع في حل الازمات التي طالت كل البلاد وأنهكت العباد، والسعي لبناء دولة مدنية، دولة قانون ومؤسسات تبني على المواطنة لا غير.

أما الهجرة فليست حلا، إنما هي هرب. لأن المهاجر سيبقى يحلم بوطنه ويجرجر خيبات لا حدّ لها، ويبذل جهودا ويصرف طاقات هائلة كي يندمج في بلاد جاءها مجروحا وعاش فيها غريبا. بينما كانت عندنا "الأقليات"، دائما تتميز بالديناميكية فقط لو توفر لديها بعض الحرية، هي التي جاءت بالمطابع وفتحت المدارس والمستشفيات ونشرت الثقافة والفنون والآداب، وصارت جسورا مع الشعوب الأخرى وتعلمت اللغات الأجنبية وترجمت الكتب وأضاءت بالمعرفة وكانت صدا منيعا لكل تخلف وتراجع (من يستطيع أن ينكر دور المسيحيين في النهضة العربية في الشرق الأوسط منذ 150 عاما؟). إن الأغلبية الساحقة لدينا اليوم تمر بأخطر أزمة في تاريخنا، أشخّصها كونها كآبة جماعية، وعجز في اتخاذ القرار، إنها كتل صامتة مشلولة، وهي بذلك تصير مرتعا للعنف وبالتالي تصبح أولى ضحاياه.

ماذا يمكن لدول الاتحاد الأوربي أن تعمل؟

 هل على دول الاتحاد الأوربي أن تقبل بالهجرة؟ إنه الحل الأسهل، لكن بدأ هذا يصبح عبئا وأحيانا خطرا، وإذا ما تكلمنا عن المساعدات الأوربية، أقول إنها سيف ذو حدين، فمن منظورنا ما ينتظرنا هو أزمة تلو الأخرى والأخيرة أسوأ من التي قبلها! كالأزمة الإنسانية بعد تحرير الموصل. من المهم إذن اليوم هو تحديد الفخاخ التي تختفي وراء المساعدات كيف نسير في الاتجاه الصحيح. هل يمكن أن نفكر ببرنامج "مارشال" جديد لبلادنا، كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية من أمريكا لأوربا؟ بعض المسألة اقتصادي حقا، لكن لا يمكن أن تطبق إلا إذا شخّصنا الجوانب السلبية، على المدى القريب الذي أختصره ببضع نقاط:

– دور الأديان: شدّد الأمريكان لدى احتلالهم العراق عام 2003 على الطائفية، ربحوا المعركة وخسرنا السلام، وقسّم الشعب ولم يتم احتواء كل العراقيين في فكرة الديمقراطية لإعادة البناء، ولم يشعروا بضرورة العمل المشترك، الكل شعر بالتهميش خصوصا السُنّة.

– تحديد المصالح الاستراتيجية، ووضع خطط محكمة بإمكانية الخروج من مأزق الهوية، هل الميليشيات ضرورية؟ كيف التخلص من أشكال التبعية المسؤولة عن الاقتتال والانتقام وكل ما يدفع الأقليات إلى اليأس من إمكانية تحقيق السلام؟ كيف نوسّع من اندماج كل المكوّنات في كتل تمنح الهوية الوطنية مصداقية عوض العودة إلى حضن العشائرية والطائفية؟

 – بإمكان الاتحاد الأوربي أن يعمل سياسيا بشكل أكثر وضوحا.

إن طريق المساعدة الأوربية برأينا، يمرّ عبر دبلوماسية اقتصادية تعالج الفساد المستشري عندنا الذي ينخر كل المؤسسات، هل يمكن لأوربا، عندما تساعدنا، أن يكون لديها حق التدخل في وضع ضوابط الصرف؟ فلا تذهب تلك المساعدات كالماء في الرمال، كتوزيع الديون مثلا ودفع مستحقات المقاولين من أجل بناء اقتصاد سليم وتجنّب انتظار تبعِيّ للمساعدة التي لا تحل شيئا بل تزيد من الخلل اقتصاديا واجتماعيا.

 – وضع خطة عمل طويلة الأمد، وتقسيم المهمة على دول الاتحاد الأوربي، الاستفادة من خبرة كل منها، خصوصا الدول الأوربية الجديدة التي خرجت للتوّ من فترات المعاناة. لنتعلم الاعتماد على أنفسنا وعلى طاقاتنا، ونشدّ الحزام للنموّ والنهوض بمسؤولية. إذ لم نعد نعرف الزراعة ولا الصناعة ولا الإنتاج، لقد صارت شعوبنا أكثر استهلاكية وبذخا ولا أبالية من أي شعوب العالم الأخرى!

– الديمقراطية تحتاج إلى نَفَس وخبرة طويلين، علينا أن نتعلم من خبرات الفشل، كما تعلمت الدول الديمقراطية العريقة، وآل بها الأمر إلى إقامة هذا الاتحاد الأوربي الذي يسحر مهاجرينا، وننتهي من المذابح بين الإخوة.

 ساعدونا من خلال مراقبيكم، ومستشاريكم، لنقتنع ألاّ نتراجع إلى الوراء ونكرّر الأخطاء نفسها. عندكم ممارسات ودساتير لم تثبت سوى بعد آلام كثيرة وزمن طويل، هذا ما أتمنى أن نستورده منكم وليس فقط الأسلحة ووسائل الترفيه!

   ألقيت هذه الكلمة في: اللقاء 19 لتجمّع الأحزاب الشعبية الأوربية (EPP) السنوي،

 المنعقد مع الكنائس والمؤسسات الدينية في مدينة البندقية (فينسيا) – إيطاليا 20 – 21 تشرين الأول 2016

 

الخبر منقول من موقع بطريركية بابل الكلدانية

 

 

ذهاب إلى أعلى الصفحة

العودة للصفحة السابقة