ذاكرة الكتابة
صياغة العقائد
د. مالك المطلبي
حتى دخول الموضوع لا بد
لي أن اجتاز ثلاث عتبات كلامية: عتبة العقيدة، وشعيرة التعميد،
والحب والكرامة.
عتبة العقيدة كان الجسر الذي يعبر نهر
المشرح خشبيا في مبناه الاول، ثم تطور بعد ذلك: شركة عملاقة
وضعت حديدا وآليات وبكرات ضخمة واسلاكا مفتولة وخباطات تدور
دورانا حلزونيا، وسط شجر الغرب، ثم رحلت بعد أن باضت جسرا
اسمنتيا، من غير ان يترك مكثها أي اثر صناعي في الجلد الريفي.
يقسم الجسر البلدة كظاهرة جغرافية في السطح غير أنه يقوم، في
حقيقة الامر، بتقسيمات سياسية وإيديلوجية. فعلى ضفته الشمالية
التي يدخلها طريق ملتو، يربط بلدة المشرح بمركز متصرفية
العمارة، يقطن الحاكم ومؤسساته: مبنى الإدارة المحلية ومركز
الشرطة والمستوصف الطبي ودائرة البريد ودائرة النفوس ونادي
الموظفين... الخ. أما ضفته الجنوبية فيقطنها المحكومون ودورهم
وأسواقهم ومعابدهم، غير ان الجسر سرعان ما يرسل بعد عبوره إلى
الجنوب إشارة أخرى: اذ يمثل الحدود الفاصلة بين عقيدتين: عقيدة
الإسلام وعقيدة الصابئة.
ففي حين
يقطن المسلمون في الغرب من الجسر يقطن الصابئيون في الشرق منه.
هذا الفصل الديموغرافي إشارة إلى تحريم الاختلاط بين الفريقين.
يتفق المسلمون والصابئيون على اعتبار الاختلاط اللمسي بينهما
احد المحارم الكبرى. وقد كنت أرى وأنا صبي الشيخ "كثير "شيخ
الصابئة يزور أبي (وهو المرجع المحلي العملي لمسلمي ناحية
المشرح وما يتبعها من قرى) كنت أرى كيف يحي بعضهما بعضا: توضع
اليد اليمنى لكل منهما عل الصدر، يصحب ذلك تمتمة بكلمات تحية
ناقصة وإحناء الرأس هذه الاشارات التبادلية كانت، في واقع
الأمر، لتأكيد ممارسة قطيعة اللمس بينهما. يسمى أحد أعياد
الصابئة رسميا بــ (دهوا ربا) وشعبيا بــ (الكرصة) أما الكرصة
فهي من الكَرس او الكِرس: وهي كلمة سامية الأصل ، تحتفظ
العربية ببعض مدلولاتها الأولى كالتجمع أو التراكم أو
الاعتكاف، ومهما يكن من أمر ففي هذا العيد تحجر العقيدة
الصابئية على أتباعها جميعا، داخل منازلهم، يصبح فضاء الأخر
شيطانيا. ولهذا يلوذون منه كي لا يدنسهم. إنه نوع من التطهير
بوساطة الاحتجاب.
في هذه الشعيرة يأتي شقاة الأولاد من جهة الغرب ، الجهة
الاسلامية : ليتجولوا في بيوت الصابئة في وضح النهار ، تحت
أسماع المحتجبين وأبصارهم ! ليحملوا أي شئ ترك في فناء الدار
المكشوف ، يرى المكرسون الأيدي تمتد وتعبث في أرجاء البيت من
غير أن يأتوا بحركة ما، لأن أية حركة تؤدي الى انكشاف المحتجب
وهذا يعني أنه سيكون برؤية "الأخر" له أولمسه نجساً، تمكنت من
اصطياده حبائل عش الشيطان . إن ثمن التطهير هو فقدان جزء من
آثاث البيت ومتاعه، مما لا يمكن أن يخبأ في الحجرات الموصودة
بالعقيدة. مرة كنت ضمن عصابة فتيان اقتحمت بيت أحد الصابئة في
عيد "الكرصة" وكان على رأس هذه العصابة أحد (شقاوات) العنف
وآسمه "عبيد "حين دخلنا ربعة الدار فاجأنا خوار بقرة، يبدو
أنها جفلت من دخول هذه المخلوقات غير الأليفة. درنا في أرجاء
البيت فلم نجد شيئا يذكر. حينها عمد "عبيد" إلى البقرة ففك
رباطها وبدأيقودها، مصدرا أصوات استدعاء البقؤ خارج البيت. عند
ذاك جاء الصوت من اللامكان... صوت زلزل كياني أنا في الأقل:
أعرفكم واحداً واحدأ: ابن رمضان وابن كاظم الخفي وابن شعيع وابن
حجي يوسف (هذا هو أنا) ومضى يعدد الأسماء الواحد تلو الأخر،
غدا سأسحبكم في مركز الشرطة ونشوف ماذا يفعل آباؤكم"
كان الصوت يعدو فوق هربنا إلا "عبيد" الذي توقف ليقلب العرض:
البقرة او الفضيحة والسجن ويبدو أنه أختار أهون العقوبتين: ترك
البقرة تخور ولحق بناوهو يلهث. في السنين الأخيرة ضرب أحد
مدراء الناحية طوقا من الحراسة حول بيوت الصابئة فوضع بذلك حدا
لتسلل الصبيان من عقيدة الى أخرى . هكذا كان الجسر خطا احمر،
يفصل بين عقيدتين : غير أنه كان في الوقت ذاته علامة أختلاط
عند العبور. في العبور إلى أشغالهم وأعمالهم يصبح أختلاط البشر
كالأمر الواقع الذي تتقلص فيه دائرة نفوذ الانفصال العقائدي
المقدس. إنه جزء من قوانين الكائن البشري وموضوعاته بكونه
كائنا حيا حرا فريدا لا بكونه كائنا إيدولوجيا جمعيا تنسجه
منظومة قيم مقدسة.
عندها تضع العقيدة هذا الاختلاط في منطقة مواربة من وجوده ثم
تنساه! غير أن كلتا العقيدتين تعوض هذه المواربة بتأكيد قدسية
الانفصال بعد عبور الجسر! هناك منطقتان أخريان مواربتان
تنتهكان قواعد تحريم الاختلاط : منطقة "العمل" ومنطقة
"التعليم".
في منطقة "" العمل"" أو ما افضل أن أسميه الإرغام الإقتصادي ،
يلمس المسلمون والصابئون بعضهم بعضا، يصنع الصابئي الزورق
فيستأجره المسلم أو يشتريه لأغراض النقل أو الصيد (صيد السمك)
حينئذ تحدث الملامسات المكانية بينهما! آثار أنامل الصابئي
ويده التي تدق وتنشر وتطلي، وعرق جبينه الذي يقطر فوق قطع
الخشب، يصبح ملاذا لأنامل "المسلم" ويده التي تمسك بالمردي
وجسده الذي يحتويه حوض الزورق كما أن طبعات أصابع الصابئي على
الذهب تلامس طبعات أصابع المسلم عليه حين يشتركان معا في لعبة
الصياغة وأستهلام الصياغة: وهكذا يتم اللمس بوساطة الاقتصاد.
يدخل المسلم والمسلمة المدرسة فيعلمهما الصابئي والعكس بالعكس.
هنا يتبادلان اللمس كأخوين منفصلين أحدهما كبير والأخر صغير.
كان الاستاذ سامي فياض الصابئي، معلم الانكليزية حين يضع يده
على كتفي يجعلني أحس بنشوة الكمال! منذ الطفولة تجذر "العقيدة"
وجودها في تربة العقل، تزرع قيمها بأناة وصبر، مستخدمة جميع
الوسائل الإرغامية الت ستبدو في ما بعد إختيارية تنبت العقدية
كالأعشاب البرية داخل العقل ومع مرور الوقت يأخذ العقل وصورة
العشب البر الذي لا ترعى فيه سوى التعلميات المقدسة التي تعد
الحيدة عنها وقوعا في حبائل الشيطان ! تصبح العقيدة مرآة الوعي
الت لا توجد خارج حدودها اية صورة للحياة!
عام 1955 تلقى مدير بريد المشرح "رحيم زيدان" برقية تنبئ عن
وصول وزير الداخلية "سعيد قزاز" على رأس وفد كبير ، بلدة
المشرح في غضون يومين . كان هذا حدثا زلزاليا . إذ إن رؤية
مدير الناحية ومعاون الشرطة وهما سيران من بيتهما نحو مباني
الإدارة المحلية ، تعد نوعا من أنواع الفرجة حيث يتجمع جمهور
متنوع لمشاهدة هذا العرض . بل تعد زيارة حاكم المقاطعة ( متصرف
اللواء ) الذي لا يبعد مركز عمله عن بلدة المشرح سوى عشرين
كيلومترا ، حدثا تاريخيا ، تعاد به صياغة البيئة النفسية
والآجتماعية والهندسية لتلك البلدة ، فما بالك الان بمجئ وفد
ليس حاكم المقاطعة أو متصرف اللواء، سوى أحد أعضائه؟
وهكذا إنشغل الناس عن هدف الزيارة بالزيارة. أقيمت الاستعدادات
على قدم وساق! وصدرت أوامر إدارية (لا أزال أحتفظ ببعض
وثائقها) بتشكيل لجان الزيارة: لجنة التنظيف والتزيين ولجنة
تصنيف المستقبلين ولجنة التجمهر واللافتات ولجنة الخطب. وإن
انسى فلا أنسى تلك اللافتة الملونة الطويلة التي ملأها الخط من
أقصاها الى أقصاها:
عاش جلالة الملك المعظم فيصل الثاني ملك العراق طائفة الصابئة
المندائيين ترحب بمعالي وزير الداخلية الاستاذ سعيد قزاز
والوفد المرافق (كنت في الصف السادس الابتدائي حين رأينا من
نوافذ الصف كتلة لا يمكن تحديدها تتحرك نحونا. وبحركة مفاجأة،
مستمدة من آحتياطي الاستعداد لهذه اللحظة، أجلس معلم الدين
واللغة العربية الأستاذ محمد جعفر الطالب الذي كان يقوم بشرح
الدرس ووضعني دلا منه . كنت أحمل أمتيازا لغويا وراثيا إذ كان
أبي واحدا من علماء النحو المتأخرين، ومؤلف مخطوطة "القواعد
الضمنية في الاجرومية العربية" - بعث الله نبينا محمدا...
- قاطعني المعلم بصوت آمر قصير خافت:
- انتظر حتى يصلوا! كنت قد تجمدت وسط الصف، غير أن جانبي الأيمن كان يحس
بتقدمهم من غير أن يكون بمقدوري تحديد ملامح بشرية ما. بدوا
وكأنهم من خارج كوكبنا الصغير: المشرح، بل من خارج الكواكب
الكبيرة مدريد ولندن وباريس التي كنا نسافر اليها عبر خرائط
درس الجغرافية!
لمحت شرائط حمراء تسيل على أكتاف بعضهم (عرفت في ما بعد أنه آمر
حامية المقاطعة)
ولمحت صورة "الأنكر" في زي بعضهم (عرفت في ما بعد أنه قائد
القوة النهرية لمركز المقاطعة) ثم الاعاجيب الدنيا! رأيت وأنا
ارفع رأسي أقوى رمز لسلطة الخوف، على الإطلاق مدير مدرستنا
الأستاذ "رشيد الإمام" وهو يسير في الخالف.. الخلف البعيد!
دخلوا الصف. التقت عيناي بعيني المعلم! وبشعاع من عينيه
وابتسامة المستجيرة ، وهزة خفيفة من رأسه: أرسل الي اشارة
البدء:
ــــ بعث الله نبينا محمدا الى قريش في مكة يدعوهم الى الاسلام فأمن بدعوته
اول الامر نفر قليل، وكفر بها الكثير. كان الكفار قد سعوا الى
القضاء على الدعوة في مهدها. كان الكفار...
ــــ هل في المشرح كفار؟
كان وزير الداخلية أو هذا ما كنت أضنه في تلك اللحظة ، قد أنحنى
علي ، اجبت من غير أن أرفع رأسي:
ــــ نعم!
أدار الوزير رأسه ونظر الى من خلفه ، ثم عاد الي بوجه تشوبه ابتسامة منتظرة:
ــــ نعم؟
أجبت ــــ نعم قال يوجد كفار في المشرح؟
هززت برأسي إيجابا
سأل:
ـــ الأن ؟
هززت برأسي ايجابا
ــــ من؟
ــــ الصبة! كأن الوفد والمرافقين والمستظيفين بالونة انفجرت ! جلجلت ضحكة
وزير الداخلية في أرجا الصف أسندتها ضحكات طليقة حوله ! وأمامي
آنفجرت ضحكة معلمي. ثم رفع الوزير رأسه متجولا بين الوفد ثم
اعاده الي وهو يقول بين أجزاء الضحك:
ـــ من؟
ـــ الصبة!
اختل النظام الحديدي للاستقبال! الأن بدأ الجميع بشر مثلنا. ربت
الوزير على كتفي وصافح معلمي بحرارة وامتنان ثم غادر وسط
تشنجات ما تبقى من الضحك ! ومعلمنا يقف على عتبة الصف محييا،
حين استدار نظر الي مليا، ومن غير ان تغادر الابتسامة شفتيه ،
قال:
ـــ سودت وجوهنا!
في اليوم التالي بدا لي ان معلم الانكليزية الأستاذ سامي فياض
"وهو صابئي" وكان المثل الذي كنا نحلم بأن تكون ، مستاء مني .
كان ينظر الي من طرف عينه كلما حانت منه التفاتة نحو اتجاهي!
رفعت يدي:
ـــ استاذ..
نظر الي من غير أن يأذن لي بشيء. ــــ استاذ ما معنى وزير
الداخلية باللغة الانكليزية؟
صفن طويلا ، ثم قطب جبينه، واستدار إلى السبورة وكتب بخط عريض mankind
نقلت هذا في كراستي . بعد سنتين تلقيت مغزى الاشارة التي بعث
بها الي!
ونعود الى جسر الاضداد ، الذي كان يجمع بين العقيدتين في أثناء
العبور ، ويفرق بينهما ما بعد العبور! لنراقب من فوقه شعيرة
التعميد:
شعيرة التعميد
الماء! الذي جعل منه جسد الانسان الاول ما قبل العقائد: غضا
نقيا شفافا : صار نداءه الكلي العميق. كلما آحتواه البر وشعر
بأنه تلوث وعرق وآغبر وفسد عاد،من من فوره، الى دورة الطهر
الجاري! هكذا عاش العراقي القديم المسمى بالسومري . كلما لوثه
البر طهره النهر! لم يكن يتجه الى الآلهة المتناثرة حوله، بل
الى تلك الدفقة المتناثرة حوله، بل الى تلك الدفقة المنسكبة في
تعاقب أبدي : كناية عن الروح المفقودة! كلما لوثه البر طهره
النهر! ليعود إلى رئتيه من جديد "وماذا يفعل وقد وضع في الخانة
الاخيرة من الوجود" كان خلقه بريا حسب، ليس مائيا ولا برمائيا.
تقول اساطير المشرح:
"الانسان كان سمكة ثم عوقب فصار سلحفاة، ثم عوقب فصار إنسانا" تعكس الاسطورة
تماهي الانسان بالماء قبل العقاب. فالسمكة في النهاية ليست الا
موجة ماء لها غريزة ! ثم بدأ العقاب بشطره نصفين : مليء
احداهما بالكتلة والثقل البري وترك النصف الاخر خفيفا في
الماء. ثم قذف بالعقاب الثالث نهائيا نحو البر! على ضفاف
السومريين تشكلت لدى الاول، في ثنايا روحه غدة الماء! هذا جوهر
التعميد! والفرق هو في تحول التطهير المادي والنفسي إلى تطهير
رمزي. صرنا بإزاء فعل طقسي، لا يطهر العقل والرةح من الخطيئة.
من على الجسر في الشتاء القارس، إذ تتجمد حواف النهر، كنا
نراقب مشهد التعميد الصابئي. ينزل المعمد المتعاقدين على
الزواج على الزواج بثياب عرسهما في الماء وهو يأتي بحركات
غريبة للرأس والجسد والذراعين. كانت القشعريرة تدب تحت جلودنا،
حين نراهما يتواريان تحت جلد ماء النهر ، والمعمد يطش الحبب
المتدفق فوقهما، ثم يغطس يديه فيرفعهما كما يرفع ريشتين
لامعتين، يتكرر هذا التواري والظهور سبعا: (ندرك الأن أن العدد
سبعة رقم طقسي يعلن تكراره في البنيات الرمزية الشرقية عن ذلك
بجلاء) أما داخل حدود العقيدة الأسلامية فلا نرى التعميد وقد
آختفى حسب بل نراه كشعيرة بدائية ومع مرور الزمن : ينظر الى
شعائر عقيدة اخرى جكزء من الترتيبات الميثيلوجية : التي تجلب
الحيرة والأستغراب والدهشة !لكن ما ان تكون الشعائر جزءا من
عقيدتك ! وتنمو فيك حتى تراها أليفة كحركة يد تؤدي التحية وهي
تمس الصدغ أو توضع على الرأس أو الصدر! هكذا تتصلب العقائد حول
نواها ! ليظهر هذا في اشكال زيها وتحيتها وزواجها وطعامها !
أدار المسلمون ظهرهم للنهر بأعتباره مكان التطهير الرمزي :
الجسد الأسلامي حين ينزل الى النهر يكون قد تحرر تماما من فكرة
التطهير المقدس "التعميد"إنه مجرد مجرى لنزهته فقط ! كثيرا ما
سألت نفسي حين ينتهي مشهد التعميد "لمَ يفعلون ذلك بالله؟" في
آخر المطاف تلقيت الجواب الحب والكرامة.
هذه مسكوكة تحية عربية قديمة ، تصادف قارئ الحكايات العربية في كل
منعطف منها! "حبا وكرامة أو حبة وكرامة" دخلت هذه التحية في
بداهتنا على أنها تعكس ما ألفناه من دلالة الحب والكرامة.
ولم يكلف أحد منا عناء السؤال عما يربط في هذه التحية بين الحب
والكرامة! فإذا سأل وجد الامر غريبا. فالتناسب بين الحب
والكرامة معدوم أو يكاد، ولا سبيل الى إعادة اللحمة بينهما إلا
بالعودة الى أصل اللفظتين قبل أن يستقرا في تجاوزهما هذا.
لايعني الحب في خطاب التحية ذاك ، الحب بمعناه المألوف وهو
النزوع العاطفي بل يعني: الخابية، خابية الماء الكبيرة التي
تصنع من الطابوق كمرشح للماء كما يستعمل قعرها كمقطر له. أما
الكرامة فمعناها ها هنا غطاء الخابية. ولما كان تداول الحب
عندنا بمعنى العزة هما السائدين، صرنا نتعامل معهما بمقتضيات
الوضع، وهكذا يكون معنى التحية: سأبذل لك كل شيء: الحب وغطاءه!
ليحل التناسب محل اللا تناسب، وتعود للجيرة حقوقها!
الأن سوف تلتقي العقيدة بالتعميد ويلتقيان بالحب وغطائه ليكون
ما حدث أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع:
كنا في شهر مايس "مايو" من عام 1955 أواخر العام الدراسي: ثم ترتفع حرارة
الجو وينتشر لفح الشمس فيسخن الهواء ويعرق الجلد وتتيبس الشفاه
وينفطر اللسان وتجف الحنجرة!
كانت الحصة الأخيرة. تشير عقارب الساعة إلى الحادية عشرة وخمس
عشر دقيقة. العقربان متجهان الى الساعة الثانية عشرة. نقطة
تعامد الشمس في السماء! دق جرس المدرسة: مخيفا طويلا كأنه لا
ينتهي! وهرع الجميع مسرعين الى صفوفهم، تسوقهم عصا الالم
التربوي: العصا المكتنزة القصيرة، التي تتمايل بيد الأستاذ
رشيد الإمام مدير مدرسة المشرح الأبتدائية للبنين، تخلفت عن
المسير الى الصف إذ صعد على شفتي ولساني ضمأ مفاجئ: يسمى هذا
في الدراما القدر التراجيدي ظمأ لم يعلن عن ذاته إلا حين دق
جرس إنتهاء الأستراحة الأخيرة. أسرعت أسابق الزمن لأحصل على
جرعة ماء قبل أن أشمل بعقاب التأخر عن دخول الصف بعد دق الجرس!
كان إحساسي بالظمأ يتفاقم. هاجم الجفاف بلعومي وحلقي من كل
جانب. في هذه الأثناء هبت زوبعة رملية نفخت دشداشتي ودفعتني
إلى الوراء. الجهد الذي بذلته لمعاكسة تيار الريح الرملية
جعلني عبارة عن عطش يتحرك! اندلع داخلي نشاط مسموع لتصورات
الماء: "سأشرب بكفي! لا بل أصك بحلقي على حنفية الحب" كان هناك
ركن في ساحة المدرسة الخلفية ، ركن مظلل بسقف خشبي مشبك،
تتخلله عرائش عنب، وزعت فيه الحوابي الأربع الكبيرة المخصصة
لشرب الطلاب الستمائة ! أربعة حبوب: ثلاث للمسلمين وواحد
للصابئيين . صفت الخوابي بحيث ينطوي التكوين على كتلتين
بالفراغ الملحوظ الذي يفصل بينهما . اتجهت مسرعا إلى منطقة
الشرب . ياللحب الذي يتجمع على جلده حباب الماء المترشح عن
مسامات باردة للطابوق المخضر! داهم تفكيري الحار فكرة التأخر
عن الحصة .الوقت الذي يمكن التغاضي عنه هو دقيقة واحدة فقط!
بعدها تتحول العقوبة من المعلم الى الإدارة. يعني ذلك أن باطن
القدمين ستلقى عشر فقلات ! لكن كل هذه الهواجس والأختلاطات
أنتهت حين مددت يدي وأدرت حنفية الماء. تخرج من كل حب حنية
طويلة. كان الحب الاول فارغا تماما . انتقلت الى الثاني وأدرت
الحنفية. تطلعت في الوقت ذاته الى الحب الثالث... وبيد متأكدة
من فراغه أدرت الحنفية كان كل شيء ينبئ عن أن الحبوب نضبت .
كنت أسابق الزمن. ثم أخذ الظمأ يبطئ من تفكيري. وفي غمره يأسي،
بذلت المحاولة الاخيرة: وضعت فمي ثلاث مرات متعاقبة على أفواه
النحفيات وأخذت أمص جراها محاولا سحب ما يكون قد تجمع فيها من
قطرات، علقت في حوافها، لكن صفير الهواء ملأ فمي! لمست، وقد
صعد في عيني بكاء مفاجئ جلد الحب القريب مني. كان ساخنا.
استدرت يائسا في لحظة بدت كأنها نهاة العالم :وفي منحني
الاستدارة لمحت نذر الخطيئة قاعدة بأنتظاري ! وقع في نصف عيني
حب "الصابئة"! ثم بد الامر يتضح شيئاً فشيئأ : تناهى الى سمعي
وقع قطرات الماء المترشحة من قمع ذلك الحب تتساقط على قاعدة
الطابوق الفرشي ليحدث آرتطامها وقعا : كأنه يبلل حافة إدراكي!
ملأت خابية الصابئة عيني... كان حزامها أخضراً نديا، تتجمع حوله
حبيبات الرشح الجديد ثم عاينت حنفيتها!كانت قطرة ماء على وشك
السقوط منها. وبرغم أن الحب لم يكن يبعد عني سوى نصف متر كنت
لا أزال أراه ككوكب قصي، بيني وبينه ألاف الملايين من السنين
الضوئية لكني أشرف على لمعانه! عدت برأسي إلى خوابي المسلمين!
لا أدري كيف غزاني شعور غريب بالحياد بين الكتلتين. إذ ذاك
سمعت هسيس نار يندلع ف مكان ما. إستدرت الى حب الصابئة . كان
الخط الأحمر الذي يفصلني عنه قد بدأ بالأشتعال "العقيدة أدركت
نيتي إذن" في لحظة واحدة فقط ناب الظمأ عني كليا. كل ما فعلته
لم أفعله بل فعله أحد آخر .. امتدت يد كأنها يدي إلى كرامة
الحب بعد أن تحركت قدم كأنها قدمي خطوة نحوه!
رفعت الكرامة. كان الماء صافيا كمرآة مصقولة ! يبلغ مستوى حزام
الحب .. لكن رفع غطاء الحب حرك سطح الماء نحو حوافه مشتتا
صورتي التي انطبعت في مرآة الماء. وفي لحظة مبهمة خاطفة أمتدت
يد كأنها يدي وحركت بأصابع مرتجفة خرطوم الحنفية فأنهمر الماء
مدرارا! اندفع فم كأنه فمي معترضا المجرى من جميع الجهات! حتى
أطبق عليه . حرى الماء متدفقا ثم أنقطع بتوقف النفس.. ثم
متفدفقا.. حتى غمر الزمان والمكان كله. في تلك اللحظة فقط شعرت
بجسدي لكنه لم يكن جسدي كليا ! لم أكن أحس الأن بشيء سوى
بالفراغ والتعب والأنتفاخ. وشيئا فشيئا أخذ الشعور بجسديتي
يقوى. غير أن هذا الجسد كان مراً.. كنت كمن يتذوق طعمه.
أستيقظت العقيدة كليا لأدرك أني لا أحمل بطنا بل خطيئة! أخذت
أتحرك وقد أعتراني ذهول من يقاد إلى مصيره المحتوم ! سرت
لمصيري! قادتني قدماي إلى باب صفي. يا للمفارقة ! آخر حصة كانت
حصة الأجتماعيات ومعلم الحصة كان الأستاذ خلف غضبان الصابئي!
لم أكن أقف على عتبة الصف بل كنت أقف فوق عتبة اللامبالاة
بثبات عجيب! لقد دخلت الخطيئة في، فلم تعد أجزاء الذنوب
الصغيرة (كالتأخر في دخول الصف) تهمني. نظر المعلم الى ساعته،
وقال:
ـــ أين كنت ؟
لم اسمع أن شيئا صدر مني . لكني سمعت كلمته:
ـــ ادخل
فدخلت. كانت دهشة الطلاب شديدة، فهذه أول مرة يكسر فيها قانون
التوقيت المدرسي الصارم. أحصل هذا بفعل تمازجنا المائي أنا
ومعلمي الصابئي؟ بعد أن جلست في مكاني حلمت! ولا أدري كم من
مرة من الوقت حين أحسست بحوارات تتقاطع حولي:
ـــ أستاذ هذا مالك إبن
يوف نايم!
ميزت صوت المعلم:
ـــ ما عليك منه.
ـــ أستاذ كأنه مريض.
كأني جرم يتهادى في الفضاء بكتلته. هزتني من كتفي أصابع....
فتحت عينين مثقلتين مملوئتين بطعم ذكرى الخطيئة وجرس الحلة
(إنتهاء الدوام المدرسي اليومي) يزحف كأفاعي الجحيم وهي تدخل
أفواجا في أذني . كل ما في قد نفذ سوى هذه البقعة النجسة من
الماء التي أحلها وانا اسير نحو البيت . وشيئا فشيئا بعد أن
انحسر جزء من الماء عني بالامتصاص بدأت أحس بأنني شيئ والخطيئة
هي شيئ آخر، لكن هذا لم يغير من شعوري بالمصير المحتوم الذي
كان ينتظرني , ولهذا حين دفعت باب بيتنا الخشبي أرسلت الكلمات
الاخيرة التي تمنح عادة لمن حكم عليه بالموت، وأنا أضع حقيبتي
المدرسية جانباً - بابا شربت من حب الصبة!
كان أبي قد فزع من وضوءه توا: تراجع قليلا كأنه يريد أن يبصرني
ثم صرخ بصوت مدو وهو ينهض بشيخوخته إلى الأعلى:
- الله اكبر الله اكبر
- لمحت في شريط الوجود الذي بدأ يتفكك أخي الذي يكبرني تتبعه أختي ينفذان من
جانبي خارجين . ظل صوت أبي يتردد في جنبات الدار كأنه لطوله
وقوته صار كالأذان ! لمحت في ما يشبه لمح النائم أمي وهي تخرج
من جوف البيت فزعة ، وما أن خطت نحوي خطوة حتى أوقفها ابي :
ـــ لا تلمسيه !
قبض علي .. نزلت أيد ثقيلة علي جسدي وطوتني كما تطوى قطعة
الإسفنج ، ثم رفعت الى أعلى بعيد عن ملامسة الرافعين . كانوا
أربعة فتيان من أبناء عمومتي .
صاح بهم أبي :
ـــ للشط صلوا عليه
انشغلت قليلا بذيل الجملة الغامضة: صلوا عليه "أهي الصلاة على
الميت؟" رفست وأنا مرفوع بأيدي الأربعة الغليظة كحمل نفذت
السكين من غشاء رقبته، ثم آستسلمت للقوة:
مرة اخرى أختلطت الأفكار في رأسي طول المسافة من دارنا إلى الشط
(لا تعدو مائة متر) ماذا تعني عبارة للشط.. صلوا عليه "اني
سأدخل في المغيسل؟" مكان غسل الموتى في المشرح ، قبل أيام سرت
مع أبي في موكب جنازة آتجه نحو الكرمة الثالثة من نهر المشرح .
سجي الميت ثم شرع بغسله بأنية نقشت عليها آيات قرآنية. ثم وضع
نبات في كفيه وضمتا وتحت إبطيه ثم لف بالكف الابيض وصلي عليه
ووري التراب . رفست قليلا "ربما".. ملت برأسي جانبا لشدة
الضوضاء التي كانت تنبعث من ورائي فرأيت شطرا من حشد من
الصبيان يحف بموكب رفعي للسماء!
وصلنا ضفة النهر فأنزلوني. أمسك بي أثنان ونزل الأخران في النهر
وقد رفعا ثيابهما الى الحزام. سلمني اللذان كانا على البر الى
من كانا في النهر وبدورهما دفعاني تحت الماء. رحت بعيدا في
الأعماق... ما إن التقطت فكرتي انفاسها لتتكون حتى رفعت الى
اعلى.. لتنطلق أصوات المحتشدين:
ـــ صلوات على محمد وآل محمد ثم نزلت ورفعت. وتكرر الأمر سبع مرات، تتخللها
الصلوات. بعدها وضعت على ضفة النهر لأسمع جملة اسئناف الحياة:
هيا اركض الى البيت لقد تطهرت!
بعد سنين طويلة أدركت أني دخلت في التعميد: التطهير الرمزي
بوساطة ماء النهر أو الماء الجاري... لأعرف أن ما كان يثير
دهشتي من أفعال التعميد الغريبة لدى العقيدة.
|