التراث والخطاب الاعلامي للعولمة
د. علي جبار الجوراني جامعة بغداد - كلية الاداب قسم الفلسفة
تقاس حضارة الامم وعراقتها بما تمتلك من تراث انساني، توارثه
الابناء عن الاباء جيلا بعد جيل معتزين بما تركه لهم الاجداد
وقيمة التراث او الاصالة او الحضارة تظهر ملامحها وتتميز
مواصفاتها كلما كانت هذه الحضارات متميزة متفردة في خدمة
الانسانية بل تعتبر هوية الفرد ازاء الاخر.
ولكل نوع من هذا الارث الحضاري ميزاته الخاصة به واهمية التراث
انه يلقي الضوء على حياة الافراد لما يمتلكون من فكر وعقيدة
وفلسفة وفنون واداب وبالتالي تظهر صورة الشعوب والامم من خلال
ما يملكون من ارث ثقافي او مهني او فني والهدف من هذه الدراسة
ليس اعادة الكلام عن الثقافة العربية وتراثها الى الاسماع،
وانما الهدف من ورائها توضيح مخاطر (الاختراق الثقافي) على
الارث العربي ..وعلى الرغم من ان محاولات اختراق الارث العربي
اقديمة لكن التصعيد الكبير من قبل العولمة ينبأ بخطر كبير
وازمة متفاقمة تهدد التراث العربي وغير العربي ايضا.
ومنهجي في هذه الدراسة منهجا تحليلا ونقديا اصف فيه اولا معاني
هذه الدراسة ثم وصف المشكلة والحلول الممكنة لها لذا سوف
اتناول اولا:مفهوم التراث، وثانيا :جذور الازمة، وثالثا :مفهوم
العولمة، ورابعا: التراث... ازمة وحلول.
مفهوم التراث
من حيث معنى التراث اصطلاحا في الفكر العربي يرى الدكتور حسام
محيي الدين الالوسي ان(التراث كلمة تشمل الدين الاسلامي وتشمل
نشاطات وممارسات عديدة اخرى فالتراث كلمة واسعة معنى ودلالة....
فأنا ..ارى ان العقل العربي -بمعنى غير بيولوجي -اعتبر الدين
والنص احد روافده ،لاكلها، وبمعنى يختلف حسب كل طائفة ففيه
متكلم، فيلسوف، صوفي، مؤرخ، عالم ...الخ ،بدرجة هذا الاعتبار
او الرافد.
وهنالك اراء مختلفة عند المفكرين حول التراث ،فمنهم من اقتصر
على التراث الديني الاسلامي وحده ، وانا اعتقد ان مفهوم التراث
اوسع من ان نحصره في دائرة الدين فحسب او كما يذكر الالوسي ان
التراث ليس شاملا للدين فقط، وانما هو مجموعة التجارب
الانسانية المتراكمة ، فتراث وثقافة امة ما ، هو نتاج صيرورة
تاريخية ومادية تشمل البنى التحتية (المادية)والبنى الفوقية (الرمزية
،الاخلاقية ) فالتراث مجموعة من المنجزات المادية والعلمية
والفلسفية والادبية والفنية، التي انجزها السلف على امتداد
الزمان والمكان، واضحت ودائع بين ايدي الخلف، وهذا التراث هو
الذي يوحد هوية الامة.
جذور الازمة:
ان المتغيرات التي واجهت الفكر العربي ، لاسيما في القرن
التاسع عشر والقرن العشرين ، نما فيها مشروع النهضة العربية
تحت وطأة الاستعمار الغربي الجاثم على صدر الامة العربية،
وهذا الاستعمار استخدم كل الوسائل التي تمكنه من اخضاع البلدان
المستضعفة لها ومن تلك الوسائل الاعلام الموجه نحو المغلوبين.
مفهوم العولمة:
العولمة تمثل الهيمنة الغربية ، الامريكية على الرغم من محاسن
الغرب من حيث التقدم العلمي، في مجال الاتصالات والمنجزات
العلمية الهائلة، يقول محمد عابد الجابري في تعريف العولمة:(
هي -بمعنى ما من المعاني - عبارة عن تنازل الدولة الوطنية، او
حملها عن التنازل ، عن حقوق لها فائدة ( العالم) ، اعني
المتحكمين فيه " وعن السياسة الامريكية للعولمة يذكر الجابري:
ومع ان كلمة "العولمة " لم تنتشر ولم تصبح كما هي عليه اليوم
من الرواج الا بعدسقوط الاتحاد السوفيتي، لا سيما منذ اواخر
الثمانينات ، فان مضمونها بوصفها تهدف الى امركة العالم ، قد
تم التعبير عنه بجلاء منذ اواسط الستينات من القرن الماضي على
الاقل. ففي عام 1965 حدد بعض المنظرين للهيمنه الامريكية على
العالم، اقتصادياً واعلامياً وسياسياً، ثلاث مهمات جعلوا
منها (برنامج عمل) يضمن للولايات المتحدة الامريكية هيمنتها
على العالم:
-الاولى تتعلق باستعمال السوق العالمية اداة للاخلال بالتوازن
في الدول القومية ، في نظمها وبرامجها الخاصة بالحماية
الاجتماعية.
-الثانية تخص الاعلام بوصفه القضية المركزية التي يجب الاهتمام
بها لاحداث التغييرات المطلوبة على الصعيد المحلي والعالمي.
-الثالثة تتعلق بالسوق بوصفه مجالاً للمنافسة.
التراث والخطاب الاعلامي ... أزمة وحلول:
أن ازمة التراث العربي التي نعالجها هنا هي نتيجة لوسائل
المعرفة المصدرة لنا عبر وسائل الاتصال الحديثة (السلطة غير
المباشرة على العقول ) او سياسة العولمة الامريكية، التي تبغي
توحيد رغبة الناس على نمط معين من العيش، والتي تروم فيه
ازالة ثوابت الامم المختلفة. والاتصال يشمل المحطات
التلفزيونية عبر الاقمار الصناعية وشبكات الانترنيت ، وان
اصحاب هذه التقنية ليسوا امم تمتلك عقائد وتراث مثل عقائدنا
وتراثنا بل لها معتقدات وقيم مخالفة لنا وتروج لثقافتها كما
تروج لبضاعتها ، فالمعرفة اصبحت في ظل الوسائل الحديثة ، تقتحم
كل القيود الموروثة والمكتسبة، فالدول الكبرى صاحبة القرار في
العالم (العولمة الامريكية وحلفاؤها) اخذت تعرض مفاهيم ووسائل
ثقافية تبغي توحيد الرغبة وانماط الاستهلاك في الذوق والمأكل
والملبس مع توحيد طريقة التفكير.
ومع ان بلداننا التي يسمونها العالم الثالث ؟ تعاني من مشاكل
اقتصادية وسياسية واجتماعية ، يكون من الطبيعي (غالباً) ان
يفضل الفرد الحياة الغربية ، وانه سوف يتقبل ثقافة الاخر
الغالب المالك للاعلام الوافد لنا ، على ما تقدمه من اغراءات ،
فمع وجود الخطاب الاعلامي المثير للغرائز، ووجود تدهور في
اوضاع الشباب (خصوصاً) يتم تخريب صلة الفرد بالمجتمع، ولا
سيما ان المرء مولع بتقليد الغلب لان المغلوب يظن ان غالبه
غلبه لانه افضل منه فحسب قول ابن خلدون.
أما سبيل حماية التراث فتكون من خلال توعية الاجيال الحالية
والقادمة بالتاكيد على اهمية ميزات التراث الحضاري العربي ،
ومن ثم مجابهة تيار العولمة على الحضارة العربية بكل امكانيات
التقنية الحديثة المتوفرة في ايصال المعلومة الى جميع انحاء
العالم عبر الانترنت والبث التلفزيوني عبر الاقمار الصناعية،
ونشر ذلك بكل الوسائل الاعلامية المتاحة المرئية والمقروءة
والمسموعة، ونشر الوعي بسلبيات الغرب وامريكا، من حيث الفراغ
الروحي عندهم، والشذوذ الاخلاقي والادمان على المخدرات وحالات
الانتحار وفن الاباية والفراغ من التراث والتاريخ لاسيما ان
امريكا دولة قامت على حساب الهنود الحمر بعد ان قضت على
الملايين منهم واغتصاب ارضهم ، ولايعني هذا الكلام القطيعة
ورفض النافع في الصناعة والتجارة والفكر أيضاً ، ولكن التمييز
بين ما هو نافع وما هو غير نافع مع الاعتزاز بالتراث العربي
الاصيل. |