الأهوار والمندائيون.. خليقة تعود إلى آدم ونوح(ع)
نعيم عبد مهلهل
مرت عدة سفن تحمل بعض العوائل المندائية من آل مران والمندوية
بالقرب من الجيش التركي المعسكر في ( صدر الحد ) وفي المساء
رست السفن ونزل راكبوها على شاطئ دجلة للعشاء ، وعندما سمع
قائد الجيش التركي زارهم وسألهم عن أصلهم فأجابوه بأنهم صابئة
مندائيون يرغبون السكن مع عشيرة ( بني لام ) لأنهم أناس طيبون
وأخيار وأوضحوا له بأنهم صاغة مهرة . وبعد أن قضى وقتا" معهم
وعرف طبيعة خلقهم ودارت قهوتهم على الحاضرين طلب منهم أن
يسكنوا هنا ويعطيهم كل شواطئ دجلة في المنطقة ويعطيهم حجة بذلك
( طابو ) وبعد أخذ ورد وافقوا وشرعوا ببناء بيوتهم من القصب
والبردي ثم غيروها إلى شواطئ الكحلاء ببناء بيوت من الطين هناك
ولذلك نستطيع الأستنتاج والقول أن المندائيين هم البناة
الأوائل والسكنة الأوائل لمدينة (مي سيانة ) القديمة وأول من
سكن مدينة العمارة الحالية
وكذلك قلعة صالح عام 1865 حيث استوطنوها مع القائد الذي بنى
القلعة)).
الأهوار... عالم ساحر... متشكل من هواجس لا تحصى. طبيعة وروح
وأسطورة... وهذا الجمع يشكل تنويعاً لأحلام ُكثر تدخل في خانة
مرئيات الزمان والمكان وهي تمسك بضوء الموروث لتعطينا أطيافاً
جميلة لتواريخ لا تحصى من التحضر والجوع والحرب والحرية وطقوس
مزاولة اليوم بفطرة الصيد والموت وإعداد أرغفة الخبز.
هذه التواريخ منحت المكان ميزته المتفردة وأعطته صبغت أن يكون
عالما يغور فيه الماء إلى ابعد ما في الذاكرة حين تحصنت به رؤى
الخيال الأول وتشكلت على موجه لحظات العقاب الإلهي الثاني بعد
نزول آدم وحواء ع وهو ( الطوفان ) . أنتشرت في المكان الأهواري
مدن وسلالات بشرية تنتمي إلى حضارة سومر وبعدها كانت محطاً
للذاكرة الكدية ثم عادت سومر في سلالتها الثالثة ومن ثم تختفي
الحضارة السومرية إلى الأبد وبعدها توالت الأقوام والممالك
والأمارات لتعيش الأهوار عهودا مختلفة لكن نمط العيش بفضل روح
المكان ظل ذاته ولم يتغير وهذا ينطبق تماما على فريضة إن حس
المكان وتميزه تظل في كل الأوقات تصنع مشاعرا متميزة لهذا تجد
الغناء في مناطق كتلك مؤثرا ومتميزا لأن مساحة الشجن وعكس
مشاعر الرغبة بالإنشاد مفتوحة كما يظهره النص السومري:
لقد صدح قلبي مع صوت المزمار
وكان القصب والسمك معي يصدحان لأن الآلهة تحب المكان
أعطته حنجرة الغناء الجميلة هذه
فالمكان يخلق الرغبة المبدعة وكان إنسان الهور في إطلاقه لشجن
ما في صدره إنما هو يوحد الكامن فيه مع الظاهر من الطبيعة التي
أمامه فتولد الأغنية وتاريخيا كانت الأناشيد جزء من طقوس
التدين في معابد سومر التي هي تقترن في بدءها أشياء الموجود
الطبيعي في الهور الذي هو القصب عندما أمر الحاكم كوديا حاكم
مدينة لكش في طيف الحلم أن يبني معبدا للآلهة فكان أمره أن
يرسل عماله لجلب القصب من أعالي البحر التي هي مناطق الأهوار
لبناء ذلك المعبد وهو ما حصل فيما تطوف روح قصة الطوفان في
فضاء المكان تماما وهي ترسم شكل المروية برؤاها الأسطورية
والدينية كما في المجتزئ التي من قصة الطوفان السومرية التي
نرى في مفرداته دلالات معاصرة لكثير من الاستخدامات الحياتية
لسكان الأهوار ( المردي والقير ..) في وصف رجل الطوفان للسفينة
وهو يصنعها:
(ثم قسمت أرضيتها إلى تسعة أقسام وغرزت فيها مسامير خشب لمنع
الماء ثم زودتها بالمرادي والمؤن وسكبت ستة سارات من القير في
الكور، وسكبت أيضا ثلاث سارات من الزفت وجاء حملة السلال بثلاث سارات
من الزفت.)
في هذا العبق الميثولوجي والطبيعي أرتبط أزل الوجود المندائي
منذ قدم الأقدمين وتلائم وجودهم مع روح المعتقد ذلك أن الماء
كان احد ضرورات ترسيخ انتماء الديانة إلى مبعثها لهذا سموهم (
الصابئة المغتسلة ) كون الماء بشكل رابطا وجوديا وطقسيا بين
الأنسان وخالفه ولا يكتمل التعميد إلا بوجوده لنه بشكل في
الرؤية المندائية المنظور الدائم إلى الشيء الحقيقي الذي هو
الخالق الأوحد . كما يظهر هذا في مقالة الترميذا علاء النشمي
عن دور الماء في الحياة المندائية، والترميذا هي واحدة من
المراتب الكهنوتية في التسلسل الكهنوتي عندهم:
(إن الماء الحي (ميا هيي) شعار وصفة ملازمة من الناحية الفكرية
والطقسية للديانة المندائية. فللماء في الديانة المندائية
قدسية عظيمة وواضحة وضوح الشمس.لكن ليس كل ماء هو مقدس في
المندائية، وإنما فقط الماء الجاري الحي الذي يطلق عليه (يردنا)
فهناك الماء الراكد أو الميت الذي ترفضه الديانة المندائية،
والذي يرمز إلى الظلام والموت. أما الماء الجاري الحي (يردنا)
فهو الماء الذي يحمل كل صفات الحياة. الماء الذي ينقي نفسه
بنفسه ) لهذا وفرت لهم مناخات الأهوار هذا العنصر الهام الذي
يرتقون به إلى مرتبة اكتمال الرؤية إلى المقدس وحيث تكون
النهار الجارية يكونون هم يؤدون بطاعة وهدوء وعزلة طقوس واحدة
من اقدم الديانات الغنوصية التي ترتقي بشكل الروح كأثر يترك
السيرة الحسنة للذات التي تعبد خالقها بكتمان وحب لهذا كانت
طبيعة الأهوار تمثل راحة للضمير المندائي وعزلة يتمناها فبدات
حياتهم الآثرية تتواصل مع البعد التاريخي للمكان ممتد من أراضي
الطيب والأودية المجاورة الواقعة في مدينة شوستر وعلى سفوح جبل
دهلران الإيراني وحتى مدينة الناصرية ومدينة سوق الشيوخ وهما
أخر تجمع كثيف يجتمع عنده الصابئة المندائيون قبل أن تتقدم بهم
أزمنة الحضارة وينتشرون إلى مدن أخرى أهمها العاصمة بغداد
والديوانية وبعقوبة وغيرها من مدن العراق.
مثلت طبيعة الأهوار مكانا ملائما لهذه الطائفة الغنوصية فلقد
أدركت بحكم المعتقد ورؤيتها الفلسفية والدينية إن المكان وفر
ما يريده المندائي من متممات التواصل مع طقوس الديانة وأركانها
وباستطاعتهم أن يتعايشوا براحة بال وأستقرار مع ما يحلمون بعد
عصور كثيرة من الاضطهاد والمذابح التي تعرضوا لها بسبب الرؤية
القاصرة لفهم ديانتهم ولإصرارهم على الاحتفاظ بالعزلة وعدم
الرضوخ لتبشيرات الغزو على مستوى المذهب والدين والولاء لهذا
عانت الطائفة في أزمنة بعيدة وتعرض تراثها التدويني إلى الكثير
من الحرق والتخريب لولا فطنة الكهنة وحكمتهم في الأحتفاظ
بتراثهم وكتبهم المقدسة بألواح من الرصاص أو مدونا على جلود
الحيوانات وباللغة الآرامية والسريانية والمندائية ومنها
كتابهم الأثير ( الكنز ربا ) ويعني الكنز العظيم وهو أعظم
كتبهم المقدسة وفيه نظرة توحيدية أزلية وتعاليم ومبادئ ترسم
الخطوط العريضة لروح الديانة وماهيتها ومنشئها وقد ترجم في
السنوات الخيرة إلى العربية ترجمة كاملة وصار بمقدور الأجيال
المندائية الناشئة الإطلاع على هذا الكنز الروحي المهم . كما
إن تراثهم كان بسبب طبيعة البيوت المصنوعة من قصب في مناطق
الأهوار عرضة للحرق السريع . ورغم هذا حافظ كهنة الديانة على
مجمل الكتب المقدسة لدى الطائفة.
لقد كان التصاق المندائيون بالمكان يجسد فكرة أن الحياة بدون
ماء لا تمثل حياة حقيقية معتبرين إن مياه الأهوار بتسطحها
الغير عميق وتوفر الكائنات الحرة التي هي من مكونات النذر
المندائي تمثل تجسيدا لذائقة العقل النوراني الذي يستطيع من
خلال الطبيعة الخالية من الشوائب أن يصنع لبدنه نظافة دائما
وتطهرا يستطيع من خلال أن يثبت نقاء مندائيته لهذا كان
المندائي يجد في المكان مستقرا لروحه قبل ان يكون مستقرا لجسده
واثر بهذا على ساكني المكان من غير المندائيين إذ امتلك بهذا
صفاء وفكر القدرة على تخيل الغيبيات والتحدث بها مما جعل سكان
الأهوار يلتجئون إليهم في الحصول على رؤى الطالع وقراءة الغيب
وصناعة التميمة التي تحفظهم من المخاطر وهذا ما تجسد في شهادة
المستشرقة البريطانية الليدي دوارور في واحدة من محاضراتها في
المعهد الملكي البريطاني:
(( ذكرت دين المندائيين قبل لحظات، وهناك في الأهوار تجمعات من
هؤلاء الناس المثيرين للاهتمام، وعوائل هنا وهناك متفرقة،
ويعرفون محلياً باسم الصبة. وهم حرفيون ماهرون، يصنعون القوارب
والحلي للعشائر، والفالات وصنارات صيد السمك والمساحي
والمحاريث وغيرها من أدوات. ونشاطهم الآخر هو كتابة الرقي، إذ
يذهب سكان الأهوار إلى الكهنة المندائيين للحصول على تعاويذ
باللغة العربية أو المندائية، والأخيرة تعتبر شديدة الفاعلية
لأنها تكتب بخط ولغة غير معروفين )).
فهذه السيدة المندائية تتبعت حياة الصابئة وعاشت معهم في مناطق
سكناهم واغلبها في اهوار مدينة العمارة وقد الفت الكثير عن هذه
الديانة وألقت الكثير من الحاضرات وتعلمت الكتابة المندائية
والنطق بها وقد وفرت لها تلك المعايشة في قرى الأهوار حيث يسكن
المندائيون ويعيشون الكثير من مدلولات المعرفة التي كانت غامضة
بالنسبة للكثير من دارسي الديانات الشرقية وكان لها دورا كبيرا
في تنوير العالم والجامعات بناهية هذه الديانة وعرفة تعاليمها
وطبيعة الحياة الاجتماعية الخاصة والعاملة لمريدها ومعتنقيها
وطوال سنوات طويلة استطاعت هذه السيدة ان تفعل شيئا كبيرا
وعظيما لهذه الطائفة ولتنهي حياتها بهذا الوصف الجميل من مقالة
عنها كتبها من لندن الباحث الأكاديمي صباح مال الله:
(قضت الليدي دراور أيامها الأخيرة بسلام في دار لرعاية المسنين
شمال لندن وكان يزورها أفراد أسرتها وأصدقائها وزملائها
باستمرار وتوفيت سنة 1972 عن عمر ناهز 92 عاما. وقد دونت في
مذكراتها عن طائفة الصابئة المندائيين ما يلي: " أن تتمكن
طائفة غنوصية قديمة من البقاء حتى وقتنا الراهن هو أمر مثير
للعجب , وأن تصان الكثير من كتبهم وتعاليمهم السرية ودواوينهم
الطقسية هو اقرب ما يكون للمعجزة. إن هذه الطائفة تضمحل بسرعة،
رجال دينهم طاعنون في السن وإعداد المؤمنين منهم في تضائل سنة
بعد أخرى. أني اشعر بالفخر كوني عاصرت عن كثب دينا ربما
سيندرس بعد حين").
انه أزل جميل، حياة تعود إلى عمق الذاكرة زمنية بشفافية لا
تخلط في أشياءها شوائب التعصب والجحود ، لقد كان المندائيون
الأوائل يرون العالم بعيون موجة الماء لهذا انفردت أحلامهم
بأثير العزلة والعودة إلى النقاط الصافية التي أشعل سراجها آدم
ع يوم هبط على الأرض ثم سارت من بعده الذرية تتقفى أثر الفضيلة
والشر في ذات المكان والزمان غير أن الخير كان ينتصر دائما كما
في حادثة الطوفان التي جلب الخير فيها من خلال غصن الزيتون
وحمامة ويقول احد مشايخ الطائفة المرحوم عبد الكريم سرحان في
مذاكرة شتائية في بيته بسبعينيات القرن الماضي وكان وقتها
عميدا للطائفة المندائية في الناصرية وما أدونه تعبيرا عن
الكلام الشفاهي للرجل بمعنى مصنوع بعبراتي:
(إننا آتون من ظهر احد أولاد نوح ع من الناجيين . كنا من
الذين شهدوا حادثة الطوفان ومن صاعدي السفينة لأننا ندرك بحكم
الرؤى التي جلبها كنزنا العظيم إن الأرض كانت بحاجة إلى درس كي
يعرف بني الأنسان الحاجة إلى اجتماع الماء والنور في قلب
المؤمن وليس اجتماع السيف والخديعة لهذا أخذنا نوح معه وكنا له
أوفياء).
في هكذا مناخات يعتقد المندائيون أنهم ولدوا وليس لهم مع الأخر
سوى مودة المكان والتعايش لجل هذا كانوا مسالمين وطيعين
ومتعايشين وأكثر ما حدث كان مع انبعاث نور الإسلام العظيم
وكانوا أكثر الملل هدوء وراحة عندما وجدوا أنهم مذكورين في
نصوص عديدة من آيات الذكر الحكيم وان السلام عدهم من أصحاب
الجزية لا خوف عليهم ولا يحزنون وقد تحدث الباحث العراقي
الأستاذ رشيد الخيون عن هذه العلاقة في مقالة شيقة بعنوان
المندائيون في الذاكرة الإسلامية:
(تناول الفقهاء والمؤرخون المسلمون، شيعة وسنُّة، الدين
المندائيين، واختلفوا حوله في أن يكون أصحابه من أهل الكتاب أو
شبه الكتاب، واختلفوا أيضاً في جواز أخذ الجزية وبالتالي
الاعتراف بهم كديانة لها حق حماية المسلمين والأمن بينهم. إلا
أن أكثر المتشددين ضدهم هم فقهاء الشافعية، بينما كان للفقهاء
الحنفيين والشيعية فتاوى وآراء إيجابية منهم، اعتماداً على ما
ورد في القرآن الكريم بخصوص الصابئة، وما ورد في الكتب
الصابئية، حسب قراءة آية الله علي خامنئي لها. كذلك كانت لرجال
الدين الشيعية صلات صداقة ومودة على غرار صداقة العلم الشيعي
البارز الشريف الرضي والعلم الصابئي البارز إبراهيم الصابئي.
يتناول هذا الكراس معاملة الفقه الإسلامي وروايات التاريخ في
أمر قوم لا زالوا يحتفظون باللغة الآرامية ويرون أنفسهم أنهم
أتباع آدم أبي البشر. وبالتالي المندائيون أهل دين سماوي،
توجهوا إلى غاية السموات بعقولهم وأفئدتهم، وبفكرة السفن
الكونية وبحارتها الكائنات النورية، ولم يجعلوا الكواكب آلهة
بل هي عندهم أمكنة لكائنات النور والظلام، والله لديهم متعالٍ
عرشه يطوف فوق بحار النور النقية. ومثلما للأديان الأخرى
معاريجها لهم معراجهم وجنتهم ونارهم). إن هذه الرؤية المنصفة
لهذه الطائفة شكلت جزء من قناعة وجودهم وارتباطهم بالمكان الذي
يريدوه ورغم أن الأزمنة تبدلت كثيرا والمد الحضاري اثر على
ذاكرة الأجيال الجديدة إلا أن البواطن لم تتغير ومهما نأت بهم
الأوطان والمنافي يظل الحنين إلى المسكن الأول هو الأكثر
اقترابا إلى القلب بالنسبة للإنسان المندائي فكما يقول النص
الرسالي لأحد مثقفيهم وهو يتحدث عن غربة الروح في الغرب بعيداً
عن مشاجرات البط وتغازل السمك وترنح قصب الهور تصبح الحياة
كتلا من الصخر حتى لو تحركت فيها رموش أجمل الملكات.
|