الإبداع والمستقبل
الترميذا علاء النشمي
مثلما
تعرفون .. لا تقاس الشعوب والمجتمعات والأقوام بوفرة عددها
وبكثافتها السكانية، فقد تكون الكثرة الكمية عبئاً يستنزف
الطاقة والموارد، ويشل حركة المجتمع، وتكثر به التؤيلات
والآراء المتضاربة التي بالتالي تكون وبالا على الحركة
التقدمية لنمو المجتمعات .
وإنما تقاس المجتمعات بقوتها النوعية، المتمثلة في كفاءات
أبنائها، وقدراتهم المتميزة علمياً وعملياً. وخاصة الفئة
الشابة بينهم، لأنها الفئة الحية المنتجة وذخيرة المستقبل ..
من هنا اعتبر الكنزا ربا ان ثبات فرد واحدا بمثابة أمة كاملة،
لما كان يتمتع به من صفات ومواصفات عظيمة، فيقول النبي الحبيب
يهيا يوهنا بان (الثابت جبل) .. وكذلك تؤكد التعاليم الإلهية
المندائية بان الرب العظيم يختار من ألف واحد ومن ألفين اثنين
لدخول ملكوته السامي .
وكان العرب يقولون عن المتفوق في شجاعته وتدبيره: رجل كألف. من
هنا نرى أن نوعية الأفراد وقابلياتهم المتجددة وكفاءاتهم
المتطورة .. هي السبيل الوحيد، والقاعدة المثلى التي تستند
عليها المجتمعات والمدنيات العصرية، في نمو ونجاح وديمومة
الشعوب والأقوام والمجتمعات .. سواء أكانت جزئية مجتمعية مثل
الشركات أو الجمعيات أو المنظمات إلى آخره .. أم إذا كانت
كليات مجتمعية مثل الدول والأوطان ومؤسساتها العاملة. فالكفاءة
والإبداع هي مصدر قوة الأفراد والشعوب والمؤسسات. والمجتمع
الأقوى هو الذي تكثر الكفاءات وقدرات الإبداع بين أبنائه.
لانهم طاقة وغذاء وديمومة أي مجتمع يرغب بالاعتماد على نفسه
للنهوض بواقعه .. حيث قال الفيلسوف لافونتين (من اتكل على زاد
غيره طال جوعه).
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا جميعا .. كيف تنمو الكفاءات؟
وكيف تتفجر؟ وكيف نبحث عن هذه القدرات الخلاقة التي لها شانا
كبيرا في دفع عجلة الحياة في كل العصور؟ وكيف نساعدها على
الظهور والنمو من خلال تواجد واهتمام مجتمعي ومؤسسي لها؟
ولماذا نلاحظ بان هناك مجتمعات متطورة يكثر فيها الإبداع
والمبدعين وهنالك مجتمعات أخرى على العكس تماما تعاني من
الخمول المجتمعي والفقر والعوز الإبداعي؟ وما يهمنا كطائفة
صغيرة العدد تمر بالكثير من الصعوبات والمشاكل على الصعيدين
الشخصي والديني والمجتمعي والمؤسسي وخاصة في بلاد الاغتراب ..
فأنا من الذين يوافقون والداعمون لنظرية أن نهوض أي مجتمع مبني
من خلال أبنائه وطاقاتهم وإبداعاتهم لانهم ثروة المجتمع وعجلته
التي تدفعه للأمام وخاصة الطبقة الشابة منه .. وكما قال
الفيلسوف غوته ((أن مصير كل أمة يتوقف على شبابها)). وأيضا أن
مصير الأمم خلقه المبدعون وصاحبي الكفاءات الذين يتفانون في
خدمة قضيتهم المصيرية. هناك عوامل وأسباب عديدة تؤثر في مستوى
حركة الإبداع والتفوق في أي مجتمع، لعل من أبرزها: مدى ما تجده
الكفاءة من تشجيع واحترام، فالمجتمعات المتقدمة عادة ما تحرص
على توفير أكبر قدر من الاحترام والتشجيع للطاقات والقدرات
المتميزة من أبنائها، بينما تنعدم أو تتضاءل مثل هذه الحالة في
المجتمعات المتخلفة. أرى في مجتمعي بان بعض الكفاءات والقدرات
الجيدة من النواحي العلمية أو العملية لا توضع موضعها المناسب
.. واراها أيضا لا تعطى المجال الكافي لمساعدتها على إطلاق
قدراتها في وسط مجتمعها .. بل أننا نزيد الخناق عليها وبالتالي
أما نطمرها أو نعطيها المجال للعمل ولاطلاق موهبتها خارج
مجتمعنا المندائي وبذلك قد خسرنا قوة وإبداع نحن في أمس الحاجة
إليه. واعتقد بان عقدة (العمر) التي تنتشر في البلاد الشرقية
عموما وفي مجتمعنا وتراثنا داخل بلداننا خصوصا .. لازالت
منتشرة ومسيطرة علينا إلى الان .. وهنالك أيضا عقدة ثانية يطلق
عليها علماء الاجتماع بعقدة العشائرية والمشيخة التي لا يزال
بعض الناس يتشدقون بها .. فأنا الان لا أتكلم عن الاحترام
والتقدير .. فالاحترام والتقدير موجود وواجب على جميع الناس
بمختلف أعمارهم ومستوياتهم وأجناسهم .. ولكن الظاهر لي بان
الكثير منا لحد هذه اللحظة نبخس فيها حق أبناءنا وبناتنا ولا
نعطيهم فرصتهم في الإبداع والظهور .. فأنا أقول بان من هو اعلم
مني فهو اكبر مني. كما أرى ضرورة أن تهتم المؤسسات المندائية
سواء المتمثلة في رئاسة الطائفة في بلدنا الام او في الجمعيات
المندائية في المهجر .. بوضع دراسة شاملة وخطط ناجعة لاستقطاب
هذه المواهب والكفاءات لأننا في أمس الحاجة لها في بناء
مستقبلنا ولتثبيت موطئ قدم لنا في البلاد التي نعيش على أرضها
والتي تهتم وتعظم الكفاءات المبدعة والتي صارت بها كما ترون
بأنفسكم على اعظم واحسن حال. فخدمة الطائفة أفعال وليست كلمات
وخطابات جوفاء تقال هنا وهناك. وكما قال أبونا يهيا يهانا
مبارك اسمه (الحكيم من يترك كلامه الجميل ويذهب لعمل الخير).
يجب علينا أن نفكر ونخطط ابعد من أنوفنا قليلا .. فيجب أن لا
نفكر بيومنا الحاضر فقط وانما يجب أن نفكر وان نتحسب لغدنا
ومستقبلنا ومستقبل أبناءنا. فإذا كانت مؤسساتنا جيدة وقوية
وواثقة من نفسها وتعمل بنكران ذات، يجب عليها أن تبحث عن هذه
القدرات والكفاءات، وتحاول جذبهم بكل الطرق والوسائل، وان تخلق
لهم الجو الصحي الحقيقي لاطلاق موهبتها في الاتجاه الصحيح
وانماء قدراتها .. وأيضا عليها أن تعطي قدرا من الحرية لهذه
الكفاءة أو تلك .. لان الإبداع والخلق والإنتاج لا يتأتى مع
السجن الإداري، والدوران حول قوانين لا تنفع أحدا. فيجب على
مؤسساتنا المندائية أن تخرج من نطاق النظرة الضيقة في التعامل
مع المؤسسة أو اللجان التابعة .. وان تضع قوانين مرنة تؤدي إلى
الخلق والإبداع، ولا تؤدي إلى زيادة الخناق وقطع النفس .. بحجة
المركزية في العمل، ووحدة الطائفة. وان مسؤولية البحث عن هذه
القدرات وتنميتها ليست من واجبات المؤسسات المندائية فحسب،
وانما من صلب وجوهر واجب الام المثقفة والواعية لدورها، والتي
تريد الحفاظ على أبنائها وجعلهم منتجين، مثمرين في المجتمع
متفاخرة بهم .. فكم من أم أو أب يسال أبنائه عن هواياتهم مثلا
!! وكم منكم ساعد على إنماء هذه الهوايات في أبنائه !! وكم
منكم يراقب أبنائه ويكتشف فيهم قضايا جميلة ومفيدة ويحاول أن
يساعده على تنميتها !! .. عيب علينا أن نفعل ذلك، لان التربية
في نظر بعض الناس هي أن ننجب الأبناء وان نعمل ليلا نهارا
لنقدم لهم الطعام والملبس الجيد فقط !!.. وكأننا مثل حصالة
نقود نعمل فقط لإدخال اكبر عدد من العملات فيها، وكأننا نعيش
لنأكل وليس نأكل لنعيش. فيا أحبتي أن اكتشاف المهارات والقدرات
والإبداع يبدأ منذ الصغر ويتربى وينشا الإنسان عليه .. فلا
تقتلوا مستقبل أولاد كم بأيديكم .. وتتركوا المجتمع والظروف
لوحدها تربيهم وتغذيهم فكريا وايدولوجيا. وإنكم في مجتمع يقدر
هذه الأشياء، وان هذا النظام مأخوذ فيها ومطبق وهو على اكبر
اعتبار لديها .. أن العلم الحديث اخذ ينظر في مشاكل الإنسان
وقضاياه بمنظار آخر، فهو يدرس طاقات الإنسان وحدود قدراته
والنواميس التي تتحكم في طبيعته قبل ان ينصحه باتخاذ طريق معين
في الحياة .. أن الفاشلين في الحياة كثيرون يملاون الدنيا،
وهناك أسباب عديدة لفشلهم وهم ليس لهم يد في تلك الأسباب إلا
قليلا. في أحد الأيام لفظت كلمة تربية في إحدى البيوتات
المندائية الصالحة، وانزعج أحدهم من هذه الكلمة، وكان التربية
هي للصغار فقط. أن الإنسان حيواني بطبعه مثلما هو أنساني
بطبعه، فلذلك يجب أن يربى الإنسان نفسه دوما على الأعمال
الصالحة والقدرة على الرؤية الصحيحة لنفسه وواقعه، حيث قال
أبونا يهيا يوهنا مبارك اسمه (راس عدلك هو محاسبة نفسك) .. أن
اعظم أنواع الشجاعة الاعتراف بالغلط ورؤية الذات بشكل حقيقي لا
مراء فيه وبدون تزويقات، جميعنا نقوم بها لتزويق وتبريج وتحلية
ذواتنا اتجاه بعضنا .. ولكن كم منا نظر إلى مرآة ذاته وجلس
معها للقضاء والمحاسبة !!. فيا أحبتي بان التربية للصغار واجبة
على الكبار .. والتربية للكبار على أنفسهم أيضا واجبة إذا لم
تكن الحلقة الوثقى التي يتمسك بها الإنسان الفاضل والمؤمن.
فأرجوكم اسمعوا وابحثوا وتعلموا ما ينفع أبنائكم وعقولهم وليس
بطونهم فقط. أما الآن بعد ما عرفنا جميعا أهمية الكفاءات
والمبدعين والمختصين والمواهب في المجتمع عامة والطائفة
المندائية خاصة .. وأهمية استقطابها بشتى الوسائل الناجعة
للعمل داخل المؤسسات المندائية .. نأتي إلى كيفية التعامل على
المستوى الاجتماعي لهذه الكفاءات .. وهل نحن نقدر الإبداع
والكفاءة؟ أم نحن نحاربهما من حيث نعلم أو لا نعلم؟ فكما
تعرفون ان البذرة مهما كانت صالحة للبذار والإنتاج .. لا يمكن
أن تنمو وتنتج إلا بوجود تربة صالحة غنية تستقبلها في أحضانها
وتدعمها للنمو ولانتاج الأثمار التي تنعم بها الكائنات الحية.
فهذه البذرة .. أستطيع ان أمثلها بالإبداع أو الكفاءة أو الشاب
أو الشابة في طائفتنا .. والتربة ممكن ان تكون طائفتنا بأجمعها
ومجتمعنا بكافة شرائحه ومؤسساته الحيوية .. فمهما كانت البذرة
ناضجة وكفوءة وصالحة للإنتاج.. لا يمكن لها أن تستمر برحلتها
نحو النمو والنضوج إلا بوجود تربة صالحة غنية داعمة ومغذية
لها. فالإنسان السوّي، يختزن في أعماق نفسه، مشاعر إعجاب
وتقدير، لكل كفاءة متميزة، وإبداع خلاّق، ودون ذلك لا يكون
إنساناً سوياً أبداً، لكن امتلاك قدرة التعبير عن تلك المشاعر،
والمبادرة لإبرازها هو سمة الراقين المتحضّرين .. إضافة إلى أن
هذه المسؤولية تناط بقادة المجتمع أو المسؤولين عن مؤسسة ما،
ويجب ان تكون لديهم الثقة بالنفس ونكران الذات وإظهار كل ما هو
إبداعي ومتميز من بين قدرات الناس. إن من يظهر مشاعر تقديره
للكفوئين المبدعين، إنما يسجّل احترامه لذاته أولاً، بالتعبير
عما تختزنه من انطباعات، ومنحها جدارة التقديم والعرض، بينما
يشكك ضعفاء الثقة بذواتهم، في استحقاق مشاعرهم للإظهار
والإبراز، ويبخلون على أنفسهم بفرصة التعبير عما يختلج فيها،
لضعف احترامهم لها. وقد تتراكم على نفس الإنسان حجب قاتمة من
نوازع الأنانية والحسد، تمنعه من إعلان تقديره للمستحقين
للتقدير، وذلك خلق سيئ، وحالة مرضية، لا علاج لها إلا بالوعي
الصحيح، والتربية الفاضلة، وممارسة جهاد النفس. وكما قال ارسطو
(الحسود يأكل نفسه كما يأكل الصدا الحديد). إن البعض تمتلئ
نفسه بحب ذاته بشكل نرجسي، ويسيطر عليه الغرور، وتتضخم لديه
الأنا بحيث لا يرى أحداً غيره مستحقاً للمدح والتقدير، بل
وينزعج ويتذمر حينما يشاد بآخرين، وقد يكون ذلك ناتجاً من شعور
عميق بالنقص والضعف، يستثيره ذكر كمال الآخرين وتفوقهم. وهنالك
بعض الناس أيضا .. الذين هم في وضع متذمر ومتشكك دائما ولا
يقبلون بان هنالك كفاءات غيرهم .. أبعدنا الرب من هؤلاء الذين
لا يرون إلا أنفسهم .. وكما قال أحد العلماء بان العظيم ليس من
يشعر بأنه عظيم عند جلوسه مع الناس، وانما العظيم من يشعر بان
الناس الذين في حضرته جميعهم عظماء. وان بعض هؤلاء يسميهم
الكاتب والأديب المصري رجاء النقاش بالتماثيل المكسورة أو
المثلومة الذين يرون عيوبهم ونقصهم في غيرهم ولا يعجبهم أحد في
هذا الكون. وقد يشعر بعض من يجد في نفسه الكفاءة بالغبن حينما
يرى تكريم غيره من المبدعين، والحقيقة إنه يجب أن يغتبط ويفرح
بذلك، لأن تقدير أي كفاءة في المجتمع، يعتبر تكريساً لمنهجية
صحيحة، إذا تأكد وجودها، فستشمله بركاتها وآثارها كغيره من
المؤهلين. |